التناغم الروحى فى إفطار رمضان

BY Marcelle Mansour  بقلم مارسيل منصور

التناغم الروحى هو نغمة الفلسطينى فى حياته ، هذه النغمة الهادئة والراقية كانت وما زالت من سمات ثقاقتنا المعاصرة ، ومن صميم وجودنا . هذه السَمة يتميَز بها الشعب الفلسطينى أكثر ما يتميَز به أى شعب آخر – فيما أعتقد – لأن هذه النغمة العميقة الراسخة هى صورة من صور حياتنا الراهنة التى تكشف عن حقيقتها اليوم من أجل التخلص من براثن التعصب الأعمى والعمل على يقظة الانفتاح

ففى الأسبوع الماضى قام الإتحاد العام لعمال فلسطين فى استراليا ، بتنظيم الإفطار السنوى الرمضانى من أجل فعل الخير والعطاء ، لمساندة الأهل فى المخيَمات الفلسطينية المنتشرة على الأراضى اللبنانبة ، والهاربين من أحداث سوريا الى جانب أهل غزة من أثر العدوان المتكرر .  وسط هذه الظروف العصيبة التى يعيشها الفلسطينيون أصبح عدد اللاجئين يتزايد بسرعة رهيبة ، وهم مازالوا يتعرضون لقسوة المعاناة الاقتصادية والصحية والسياسية .  ولما كان لى نصيب فى المشاركة لهذا الإفطار الكريم ، رأيت أن أنقل للقارئ بعضا من انطباعاتى ، والتى ما هى إلاَ تعبيرعن إعجابى لهذه المناسبة ولأعضاء الإتحاد الذين قاموا بتنظيمها مشكورين على هذا المجهود الرائع . وأهم ما لفت نظرى هو الحضورالروحى والسياسى جنبا الى جنب وفى وقت واحد ، لأننى قمت مسبقا بالتعبير عنها فى أعمالى الفنية صورة وكلمة . فقد تصَدر الحضور فضيلة مُفتى استراليا الدكتور ابراهيم أبو محمد والأب السامى الاحترام الموقرعزيزعبوة من الكنيسة الأرثوذكسية فى روثى هيل . ولا أخفى على القارئ أنى شعرت بالسعادة تغمرنى اذ رأيت علامات السماح والموَدة والأخوَة ترتسم على وجوه الحاضرين .. ولا عجب فى ذلك اذا عرفنا أن هناك قوة خفية تكمن وراء ذلك ، وهى أكبر من وجودنا وأعمق من إدراكنا كبشر ، ألا وهى قداسة الخالق ” الله ” . هذه الكلمة التى تصدرت افتتاحية كلمات رجال الدين كلَ بطريقته التقليدية المعتادة . ومن هنا نستشف بأننا جميعا نؤمن بأن الله واحد بغض النظر عن الديانات أو الطوائف أو المذاهب . ولما كانت فلسطين هى مهد الديانات السماوية ومبعث الانبياء ، فربما يكون هذا عاملا أساسيا فى سبب إرتفاع روحانية الفلسطينى ، فهو فى النهاية يؤمن بقدسية الارض التى سُلبت منه

وقد تحدث المفتى الدكتور أبو محمد عن إلتقاء الأديان فى زمن التسامح والإنفتاح على الآخر و” أن الدين لله والوطن للجميع ” . كما وأشار الى زيارته فى العام الماضى الى غزة وحدثنا عن وطنية الطفلة اليتيمة الأبويين والتى رفضت تلقائيا فكرة التبَنى لها فى استراليا فقال ” ان هذه الطفلة البريئة قد كبَرتها الأيام “

ثم تلا بعد ذلك كلمة الأب السامى الاحترام عزيزعبوه ، فتحدث عن تاريخ الصيام الجماعى الذى فرضه الله على الانسان منذ العهد القديم ومدى تأثيره على النموالروحى وهنا أود أن أقدم تحية حب وتقدير الى الأب عبوه لمبادرته الطيبة ومشاركته الأولى من نوعها فى الكنيسة الأرثوذكسية فى أستراليا – وهو الفلسطينى الأصل – فتميَزت كلمته بالهدوء والوداعة والنظرة العميقة والحكمة الداعية الى المحبة

أما سعادة سفير فلسطين فى استراليا السيد عزت عبد الهادى فقد اختار المساندة بالحضور دون إلقاء الكلمة – وهو دائما الحاضر المتكلم – وذلك من أجل إتاحة الفرصة لرجال الدين فى هذه المناسبة الهامة ، فجاء صمته أبلغ من كل كلام !  كما وتحدثت السيناتور لى ريانون ، وهى التى زارت غزة خلال العام ، فأعربت عن سعادتها للمشاركة بهذه المناسبة التى تجسَم نموذجا حيا لقبول الآخرعلى أنها جزء من التعددية والديمقراطية فى استراليا

وبعيدا عن هذه الكلمات المألوفة … كان هناك بعض اللقطات الجميلة التى أبهرت الحضور ، مثل مهارة الأطفال الثلاثة من عائلة سلطان – (آيات وزهرا وليلى ) – وبراعتهن فى أداء تلاوة القرآن التى تكشف عن تنمية بذور البراعم الاسترالية وتوطيد جذورالهوية والانتماء. ومما أثار الإعجاب أيضا ظرافة المفتى الدكتورأبو محمد عند تسليم الجوائز لهؤلاء الأطفال ، فسأل واحدة منهن إذا كانت تؤدى السلام التقليدى لدى الجنس الآخر من الذكور قائلا : ” انت بتسلمى على الصبيان ؟” فكانت هذه لقطة مصرية خفيفة الظل وتدل على تشجيع الجيل الناشئ على الانفتاح . أما الجزء الجاد فى صلب الموضوع ، فكان يحمل تسجيلا وثائقيا هزَ مشاعر الحضور لبعض من المناضلين بما فيهم الصبيَة ” جميلة ” من سكان غزة والتى فقدت اخوتها الشهداء فعملت على إعالة أطفالهم اليتامى عن طريق العمل الشاق فى صناعة الأسمنت وهذا لا يتلاءم مع طبيعة التكوين الفسيولوجى للمرأة

هذه هى صورة من صور الحياة الواقعية الراهنة التى يعايشها اللاجئون الفلسطينيون والتى تصرخ عاليا وتدعو الى الرحمة … والتى لا بدَ وأن يستجيب لها صوت الضميرالإنسانى الذى يتمثل فى الرباط الروحى والسياسى ، هذا التضامن الحقيقى اذن هو من أبرز سماتنا المعاصرة لأنه يتجاوز حدود المصلحة الفردية الى ما هو أعمق بكثير . وما أحوجنا اليوم الى مثل هذه المناسبات لأننا شعب قطع على طريق الزمن أكثر من خمسة وستين عاما وحمل على كتفيه هموم الحروب والشتات فبات من المؤكد أنه لابد وأن نتخلى عن نزعة التعصب وأن نرتقى بأنفسنا نحو المعانى السامية من خلال المحبة ومبادئ الإيمان والتأقلم الروحى فى الحياة بما ويتوافق مع النغمة الفلسطينية

16/7/2013 هذا المقال قد نشر في جريدة التلغراف العربية ، تحت عمود “كلمة عابرة “، بقلم مارسيل منصور بتاريخ