By Marcelle Mansourبقلم مارسيل منصور
.” إن الفكر الذي يبدع هو الفكر الذي يقربكم من السماء…”
وعظة من (في معبد الروح) للدويهي
صدر حديثاً كتاب ” في معبد الروح” بالعربية للأديب والشاعر الأسترالي اللبناني الدكتور جميل الدويهي، وهو مجموعة من العظات تتخللها تأملات أدبية وحكم وبعض القصص والحوارات المستمدة من أحوال أفراد المجتمع، أما موضوعاتها فهي متعددة ومعظمها يضم قيماً أخلاقية اجتماعية وأحيانا فلسفية، تبدو أنها مستوحاة من المسيحية
لقد جرى العرف على أن تكون هناك تفرقة بين من يطلق عليهم اسم “الأدباء” و”الشعراء” و”الفنانين” من جهه، “والمفكرين” و”العلماء”، من جهة أخرى، ولعل ما يميز الطائفة الأولى هو أنهم جماعة من أهل الخلق والإبداع في الشعر أو الفن، أديبا كان الفرد أم شاعراً أم فناناً في الرسم أوالنحت وما شابه ذلك، ففي هذه الحاله يستطيع المبدع أن يسرح في خياله، فيعبّرعما يجول في خلده من فكرة يخرجها إلى حيز الوجود، وفي معظم الأحيان نرى أن هذه الجماعة هي من المبدعين الذين استناروا وأرادوا أن ينيروا، من أجل تنويرأفراد المجتمع من خلال المعرفه التي تكمن في خلجات نفوسهم وفكرهم، على أن تجيئ للمتلقّي في صورة إبداعية، في معظم الأحيان يكون سر سحرها ما يكمن في غموض طياتها الغير مباشرة
ولكن الأديب الدويهي جاءنا في كتابه هذا (في معبد الروح) بطابع مغاير، إذ اعتمد في الغالب أسلوب الواعظ المباشر، فنراه يكتب بروحه السمحة وقلمه الهادئ ليشيع فينا نفحة التعبيرالذي يقيم بنيانه على أسس الثقافة الروحية والمجتمعية الأصيلة. على أن المؤلف قد استقى مواده من مناهل عدة بما فيها تعاليم المسيحية، وصهر جميعها في نتاجه الأدبي، وإن كان قد استعمل طابع الوعظ ، فذلك لأنه استخدم الصيغة اللغوية لأسلوب الكاهن الذي تقمص شخصيته
فالمؤلف هو الكاهن ذاته الذي يبدأ كتابه بالتعريف عن نفسه، نراه قد استهل أول مواضيعه بعنوان (صورتي في المعبد) فيقول: “كنت أجلس في معبد الروح” (ص 4) ، فيسرد للقارئ كيف كان يأتيه العاملون والمحاربون … وكيف “نجا المعبد من الحروب”(ص5) … لأنه كان يعطيهم خبز الحياة ، … ثم يتحدث عن الخير والغفران والتسامح، وهو الرجل التائب الذي يقول : ” ليسامحني ربي على ما فعلت “(ص6) كما ويتحدث عن ” مأدبة السلام الجميل” في الموضوع نفسه. ثم يسترسل في الحديث عن القيم في عناوين أخر، فينتقل من موضوع إلى آخر وكلها تمس الإنسان في صميم واقعه. وفي وسط الكتاب عن موضوع (الضغينة) يكرر:”وتكلموا لغة السلام ، فهي لغة المجد الأدبي”(ص53). ويستمر في عرض نصوصه المختلفة إلى أن ينهي كتابه بوعظة أسماها (العظة الأخيرة وصيتي) ، فعندما سألوه أهل الناحيه عن وصيته الأخيرة أجابهم : “ليست عندي كلمة يا إخوتي أقولها الآن إلا أن تدعوا السلام يعيش ويكبر في بيوتكم وشوارعكم.” (ص98) . هكذا نرى المؤلف الكاهن الواعظ يبدأ، ويتوسط، وينتهي في كتابه (في معبد الروح) بالحديث عن موضوع بالغ الأهمية ألا وهو موضوع “السلام”، وما أحوجنا إليه في هذه الأيام
ففي كتابه هذا نجد باقات متعددة ومختلفة من المواقف والمفاهيم والقيم التي تتخللها بعض الحكايا الواقعية لأمثال أؤلئك الأفراد والعائلات، والتي أوجد حلولا لها، قد بناها على الحلول الوارده في الأديان السماوية. هذه النصوص معظمها مفعمة بروح الإنسانيه والمحبة التي نلمسها في الوعظات الدينية، فضلا ًعن النظرة المثالية التي يود أن يراها في الناس أويوصلها إليهم. فهو لا يعتمد خلوة المتصوف الذي يبتغي المثالية اللامتناهية ذات العالم اللامحدود، ويترفع عى واقع العالم المادي في عزلة، وإنما نراه غير ذلك، فهو الكاهن المتصوف في معبده تارة حيث يزوره عامة الناس، ورجل الدين المتجول بين شعبه تارة أخرى من أجل أن يغامر في تحسين أوضاع حياتهم وأن يصعد بهم نحو يقظة تصحو بها كوامن النفوس. فتراه تارة يكتفي بأن يلاحظ من بعيد على ألا يكون انعزاله سلبياً، وأحياناً يتصل بالشعب اتصالاً مباشراً – داخل المعبد أوخارجه – حتى يستطيع إصلاح مجتمعه
ففي موضوع (النور والظلام) يقول: “انهما توأمان لا ينفصلان … فنور الفضيلة لا ترونه بالعيون المجردة (ًص30) … اسكبوا من النور في أرواحكم لتصير معابد مقدسة ، وطهروا قلوبكم بفعل الخير، فالخير يزيد النور نوراً.” (32) . وعن موضوع (قيمة الحب): ” أما أجمل أنواع الحب أيها الناس هو الحب الذي يعطي ولا يأخذ”(ص18) . أما في حديثه عن (المرأة ورجلها) فهو يرفع من شأن المرأة ويعطيها حريتها ويرفض إهانتها أو إذلالها فيقول: “لا ترجموا إمرأة إذا …”(ص16) “ومن أسوأ الحب أن يتظاهر رجل يحب أمرأة لكي تعطيه جسدها” (17) ثم يصلح بين إمرأة ورجلها في مواقف أخرى فيقول: “إني أعجب كيف يهين الرجل زوجته ولايشعر بالإهانة”، كما يرفع من معنويتها ويشجعها على الاهتمام بنفسها ومظهرها، و يشير إلى أن التوازن مطلوب بين الروح والمادة و يحث على السير قدماً نحو التطور ص (47 )
فالهدف الواضح من هذا الكتاب هو خلق روح عصرية جديدة، تتسم بطابع مميز، يتطلع إلى أفق أوسع، لا يقتصرعلى أصحاب الحياة النقية وحدهم – أعني عليّة الروحانيين والمتدينين والمثقفين – بل يتعداهم إلى كونه كاهن ومصلح اجتماعي ليشمل عامة الشعب كله، وذلك لأنه يجمع بين ثنائية الثقافة الدينية والاجتماعية لقد جاء كتاب “في معبد الروح” في موضعه الزمني من عصرنا الحديث، شاهداً قوياً على رغبة المؤلف الدويهي – إذ يرى نفسه في دوامة التيارات المعاصرة وتدهور القيم – في أن يثبت ذاته إثباتاً يجعله روحياً دينيا، فجعل من نفسه كاهناً متعبداً ومصلحاً اجتماعيا خالصا، من أجل إفادة أفراد المجتمع والعمل على التئام جروحهم وإعادتهم إلى الحياة، حتى تدب فيهم الروح من جديد. ولذلك نراه في (في معبد الروح) قد انتقد بعض الآفات الأخلاقية والاجتماعية، وحثّ على التحلي بفضائل المسامحة والحب والغفران
(في معبد الروح) يقدم لنا د. جميل الدويهي نسيج كتاب مميز، جاءت خيوطه كلها تتجمع لتلتقي في عزيمة واحدة، تبحث عن الجذوة التي تشملها فتحركها إلى فكر إنساني جديد يقلب التربة قلباً، ليبذر بذوراً جديدة، تنبت لنا نباتاً جديداً. وإن هذه الجذوة هي التأمل في الروحانيات والتعمق في الاتجاهات الحياتية الجديدة والعلاقات الاجتماعية، والمشكلات الإنسانية، والفلسفية، وأمور الحياة الجارية التي تصادف الانسان منا في كل العصور من حيث اختلاف الرأي وتعدد الأحوال، فنرى المؤلف طريقته في إيجاد الحلول فورية وعميقة الجذور. فما من شيء حوله صعب وهو الكاهن المتعبد والضليع في كل الأمور والذي يستطيع أن يعمل على اختراق حواجز الزمان والمكان
وقبل أن أترك الكتابه هنا، لايسعني إلا أن أهنئ الأديب د.الدويهي على إصدارهذا الكتاب القيم الذي يقدم صورة نضرة لكيفية التعايش في الحياة الإنسانية الواقعية على أسس روحية وعقلانية، فمزيداً من غزارة الإنتاج الخيّر والنجاح