خواطر» المهندس نقولا داود نبراس تيقظ شعلة الفكروحرارة الإيمان والأمل بقلم مارسيل منصور»
OAM بقلم مارسيل منصور
ليس من السهل على صاحب الحياة الثقافية المتشعبة بين فكر وفلسفة حياة وسياسة واجتماع وأدب وصاحب مصلحة مرموقة أن يجد الوقت من أجل أن يسجل خواطره على الورق، وهوغارق في خضمّ انشغاله بإدارة مصلحته الضخمة في التطوير والبناء، فعمله في المعمارلم يمنعه من أن ينهل من الثقافة والعلم وحب المعرفة ما جعله أن يكون خلاّقا مبدعا، فكان هذا الكتاب وعنوانه «خواطر من قلب الوفاء والأمل» باكورة أعماله وفاتحة كتبه المستقبلية، والتي لا تحتاج إلى تعليل او تحليل، فتراه وكأنه دفعته الرغبة الجامحة في أن يخرج إلى النورثمرة ناضرة قد حان قطافها لأنه ينعم بينه وبين نفسه بثقافة عميقة فسيحة الآفاق.
وكما يبدوأنه – كشخص مرموق ناجح – لا يملك ساعات فراغ لأن يملأها أويضيعها هباء، ولذا سألته متى يجد الوقت ليكتب؟ فأجاب: في الصباح الباكر بين الساعة الثالثة والخامسة، وهذا مايؤكد قيمة ثراء الوقت عنده وكفاحه مع صراع الزمن من أجل أن يرعى هوايته المحببة إلى نفسه وأن يحقق هدفا يحب أن يحييه وأن يخرجه إلى حيز الوجود دون أن يخفق، ولان هذا مرهون باختياره فبات وكأنه عمل مقدس مثل قداسة العبادة نفسها ولذلك يصبح عمله الخلّاق هذا جزءا من الزمن. وإنه من نعم الله عليه أن منحه نعمة الحسّ الحضاري في إيجاد الوقت رغم انشغاله لأن يصبح من أصحاب القلم وكأنه خرج من سجن نفسه إلى العالم وإلى الناس من حوله، أو كما وصفه نجله شارل في (رسالة إلى أبي) بالإنجليزية وترجمتها: « قبل العثورعلى ما تحب كنت أعمى وبغيررؤية ».
قدم المؤلف إهداء كتابه «إلى روح ثلاثة أتقياء رحلوا إلى الذات الإلهية» وتركوا بصماتهم للأجيال في تعاليم التفاني في سبيل الله والوطن والمجتمع والإنسان، وهم حنا داود داود، شارل حبيب مالك، ووالده سليمان سلمان داود. فأفصح عن سلسلة الخواطر في نفسه، و خص الإهداء إلى هؤلاء الأحبة الأعزاء على قلبه في هذه الخواطر الممتزجة بمسحة الوفاء والأمل، حيث يقدم لنا المهندس ورجل الأعمال الناجح، الحاج نقولا داود، كل ما يدورفي خلده من خواطروذكريات ونوادر ووجدانيات وقصيصات من الواقع، بل كل ما يختلج في أعماق روحه من أجل أن يكون نبراسا في بلاد الغربة التي حطت عليه قدماه.
ففي كتابه هذا يتناول مواضيع متعددة ومختلفة، إنسانية واجتماعية وسياسية وروحانية، وكلها تعكس معاناة الغربة والاشتياق للوطن، والوفاء لأسلافه من العمالقة والأصدقاء، ورسالة سامية لتعليم الأجيال، وكأنه خُلق لأن يكون وسيلة فريدة للخير العام. فنرى هذه المواضيع ذات أهمية بالغة وذات أفكارقد طرأت على ذهن المؤلف فلم يدعها تفلت من بين طيات سريرته دون أن يسبرأغوارها. هكذا انسابت خواطره ليخط هذه السطور في كتابه ويعبرعماّ يجول في ذاكرته حين يستيقظ باكرا قبل طلوع الفجر، وقبل بزوغ الشمس، وبدء يومه في جهد العمل، فعبرعن مشاعره ومكنوناتها بما يتعلق في مواضيع شتى تهمّ البشرعلى نحو إبداعي مميز، وهو المهندس اللامع في مهنته النشيط المجتهد في عمله، الصادق المخلص المتواضع الذي ينضح بروح الطموح والتصمیم والعمل الناجح. ولعله يبرزهذا في مقاله (صناعة الأمل) حيث في نظره « يشبه الانطلاق من العدم».
أما عن الأسباب والدوافع وراء خلق هذا الكتاب ورسالته تحديدا، فنرى المؤلف يتساءل في مقدمة كتابه: «إعتقدت أن الكلام كلّه قد قيل، فلماذا الكتابة؟ … فتّشت عن الأجوبة … ووجدتها في تعليم المعلم الأبدي … وجدت نوره الأبدي يشعّ على المسكونة» ، ثم يستمر في ذكرالأشعارالروحية فيختصرالكتاب المقدس في الصميم ويقول «وجدت عند سيدي طريق الحياة المثالية الكاملة وتعليمه الكامل لكل الأزمنة »، ولأنه شديد الحب للمسيح ذوالإيمان المسيحي الأورثوذوكسي العميق، فهو يقول: « والمؤمن يذيب نفسه شموعًا لإضاءة سُبل الآخرين … فهذا النور مأخوذ من النور الأبدي» لقد وردت في مقدمة الكتاب كلمة «النور» أربع مرات وكلمة «الأبدي» ثلاث مرات، وذلك لأن المؤلف لم يكتب إلا لأنه قد شعر أن بداخله رسالة يريد أن يوصلها، إذ تكمن في الكشف عن حقيقة الذات الإلهية الكامنة في حضورقداسة النورالسرمدي المطلق اللامتناهي الدائم أبدا، الغيرالمنظورلكنه الموجود قبل كل الدهور، و«أن حب الله ينتج حب الوطن والناس». فنراه يحمل معه رسالة كنيسته «الأنطاكية الأرثوذكسية في أستراليا .. رسالة المحبة والتسامح والعطاء … جميلة أنت يا أنطاكية … وجميلة هي رسالتك إلى الأمم». كما في (حراس الهيكل) يقول « لأن كنيستنا رسالة جميلة». وإني أرى في مقال (لحظات التحدي) برهان على ذلك حيث تحدث المؤلف عن التحدي الأكبر في حياته «عندما تم شراءالقرية الأنطاكية في مدينة جولبورن لتكون فخرأنطاكيا ورسالتها…».
وفي (صباح الخير) يستشف القارئ رسالة هامة للمؤلف في المحادثة بينه وبين صديقه عن أسباب بناء أعمدة الباطون على سطح المنازل من «أجل تواصل الأولاد والأحفاد مع أهاليهم وأجدادهم وضمان الاستمرارية المباركة»، وكذلك ارتداء الخاتم من أجل التذكير« بضمان سلامة الناس»، والتعلق ببخورأرض بلاده لأنها «رمز خشبة خلاص». كم هو رائع هذا التعبير! ليحمل خلاصة رسالة المؤلف حين يعلن عن مسئولية قادة المستقبل بأن يكون كل «منهم خشبة خلاص للوطن والمجتمع … وخشبة جسرلعبورالناس إلى بعضها»، وهنا تتجلى مهارة المؤلف واستقاء تعبيره الصادق عما يدور في خلده من صميم مهنته في الهندسة المعمارية ومن جذورأرضه وثقافته الذاتية وإيمانه الراسخ بالمسيحية وتأثيره العميق بكل هذا وذاك.
وفي حديثه عن كيفية معاملته للعاملة «السيريلانكية» واسمها «” داشني”» يتوجه إليها قائلا «أنت في أرض جيدة … فهي أرض إنسانية وليست أرض عبودية» ، فيظهر هنا ثقافة الديموقراطية لأرض الوطن الحبيب الذي اعتنقه أستراليا. ويؤكد ذلك في مقال (أنا المغترب اللبناني) حيث يكتب عن مرارة غربته من بلاده لبنان عندما «غادر أرضه بغصة سرية وألم شديد صامت»، وعن ولائه لوطنه الكريم أستراليا، كما ويشيد ببهاء هؤلاء المرموقين من الأصل اللبناني في أستراليا والعالم. كذلك لا ينسى المؤلف أن يتحدث عن الكثيرمن الإيجابيات التي يتميزبها الشعب الشرقي العريق، من أجل الاعتراف بالجميل والشعور بالثقة والاعتداد بالنفس لكل من أنجز أعمالا حسنة يقتدى بها. ولكنه أيضا لا يتوان عن ذكر السيئات التى يعمل على نكرانها والتخلي عنها ليكون قدوة لغيره فيقول : «كلا..لا أقبل أن يسمىّ شعبي بالعنصري…المنبطح أمام الشعوب الشقراء … والمتعجرف أمام الشعوب الآسيوية أوالأفريقية».
وبالنظرجيدا إلى محتويات الكتاب، يرى القارئ في المؤلف صدق حرارة الإيمان ومنبع الأمل، ويزداد حبا وفرحة ونشوة إذ يتسع رحابا وتشتد الأواصر بين القارئ والمؤلف، لأن خواطره المنسابة تنبع من قلبه ومن شعوره، فيجد فيه كل معنى وخصوبة في التعبير وجمال، تجتمع فيها شفافية النضوج وخبرة الحياة، مع طموح يرقى بصاحبه إلى عنان السماء على أجنحة كأجنحة الطيرأو ملائكة المحبة، وكأنها تجسيد للمثل العليا في عصرنا هذا، حتى ترمز إلى مانتوق إليه في روح العصرالجديد. فتزيد القارئ غبطة به ومحبة له، خصوصا حين ينظر إلى أصدقائه الذين أحبهم بصدق نظرة الفنان، وهي نظرة أقرب إلى نبضة القلب وخفقة الفؤاد وهزة النفس. فيقول في(حبيب شارل مالك): «هوالإنسان الكوني الذي سعى للصلح العالمي واللقاء الإنساني على عدة أصعدة … منها التصالح الكبير بين الأديان والطوائف …والمساهمة الفعالة بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان …عشقت فكره لأنه كان ذلك الإنسان». وفي رمزيات (الشروق والغروب) تعبيرعن البداية… والنهاية «لحياة كل مخلوق». وعن الذي يصنع الرحمة في (المقدمة) والذي يعطي مجانا في (زيارة الشوير) يستقي المؤلف بلاغة التشبيه من الإنجيل قائلا: «مثل الإنسان المنحدر من أورشليم إلى أريحا»، فتراه يستخدم أمثالا من مدينة أريحا كقدوة.
وهنا ما يجعلني أتطرق في الحديث عن أسلوب الكاتب الرفيع في فن الكتابة، فالأسلوب هو صاحبه كما يقال – أي أنك إذا عرفت لأحد من الناس أسلوبه في العيش وفي الابتكار، عرفت حقيقته – لأنه لا فرق بين الشقين، فقد قال سقراط ذات مرة لرجل جلس صامتا: كلمني يا هذا حتى أراك! وها هو الحاج نقولا داود يتكلم في كتابه حيث نراه من خلال ما كتب أي ما قال وما صنع. ومما يثير الإعجاب أن المؤلف قد تمسك بلغة الفصحى في الكتابة باعتبارها الثابتة بأسلوب رشيق محبب لأن “اللغة وعاء الذات” كما قال الفيلسوف هايديغر. أما الأسلوب فهوالإنسان وطريقة التعبيرعن الذات، كما أنه أشبه بالتصميم الهندسي الذي يتم به إخراج مبنى الفكر من انتقاء الكلمات وبراعة الإبداع، ولا عجب في ذلك إذا عرفنا أن المؤلف يحترف مهنة الهندسة الرفيعة المستوى فجاء أسلوبه انعكاسا لشخصيته الممتزجة من ذكاء الفكر والموهبة. فالصيغة التي استعملها الكاتب وإيقاع نصّه وموسيقاه الخاصة ونباهة أفكاره وقوّة مضامينه تمثل جواهرأسلوبه الصادق في التعبيرالذي يصل عمودياً عميقاً إلى القلب، فنعرف صاحبه من أسلوبه وصدق عباراته. وإني لأنقل إلى القارئ عبارة أقتبسها من كتابه هذا إذ قال: « ومع خيوط نورك أقبّل وجوههم … وسأشتاق لطلتك البهية من فوق جبال لبنان … ولأرض أجدادي وجبال بلادي وأوديتها… » وفي (ألف صباح الخير يا داشني) قد أحسن التعبير في أسلوبه الرشيق قائلا: «لكنه لم يقف …كالنهر المتدفق باستمرار… والريح التي لا ترتاح».
هكذا انفاضت خواطره وكأنه استيقظت شعلة الفكر والإيمان والأمل من جعبته، فإذا هو نتاج جديد لثمرة تفتحت زهورها وكأن الايام تمضي به، وتكثر في طريقه مواقف الحياة، فيزداد بكل ذلك خبرة. كل هذا إنما يدل على أن المؤلف نقولا داود يتمتع بشخصية فذة، من شيمتها أرفع الخصلات الإنسانية السامية – ألا وهي الوفاء والايمان والأمل– هذه الخصلات الاجتماعية الخلقية التي تتمثل في التفاني من أجل قضايا هامة بصدق خالص وأمانة متناهية، هي من أجمل الصفات الإنسانية، عندما يبلغها الإنسان بمشاعره وروحه وعقله وقلبه وأحاسيسه، فإنه يصل لذروة بلوغ الفضائل للنفس البشرية ذات القيم العالية في القول والفعل معاً، ولأنه يتكلم عن الوفاء ويملك قوة الأيمان العظمى فقد جعله الله في خواطره وسيلة لخدمة أمورالبشر.
فالكتاب «خواطر من قلب الوفاء والأمل» للمؤلف المهندس الحاج نقولا داود، الطبعة الأولى في«دارالبلاد للطباعة والإعلام في الشمال» لبنان، بإصدار خاص، ولوحة الغلاف بريشة الفنان ميشال داود، عدد الصفحات ٣١٢ ورقة ذات الحجم المتوسط. هذه الصفحات بها غزارة رائعة لا بكثرة عددها فحسب، بل بما فيها من ثراء في الفكروالإيمان والحس المرهف، حتى ليخيل إلى القارئ أنه إزاء لحن موسيقي تجاوبت نبراته، وتلك هي نظرة العلم ونظرة الفن، فنراه يجمع بين النظرتين معا، فهو يرى في الأشياء كل ما فيها من عمق وحرارة ونضوج وحكمة.
لاشك أن كتاب «خواطر من قلب الوفاء والأمل»، يستحق القراءة. تهانينا للمهندس الحاج نقولا داود على باكورة إنجازه، ومزيدا من النجاح والإنتاج المثمر