لاهثا يبتلع الهواء» للشاعربدوي الحاج ديوان في الإبداع يثيرالفكروالوجدان»

      

  OAMمارسيل منصور

لاهثا يبتلع الهواء … هو الديوان الثالث للشاعرالمهندس بدوي الحاج، كتاب يحمل بين طياته معاناة الشاعر وعذابه وآلامه.  من يتوغّل في نتاج شعره، يكتشف أن المعاناة هي منبع الإبداع في الفكر والوجدان. صحيح أن المعاناة تعذب الفنان وتتعبه، ولكن هذا العذاب يصبح مصدر إيحائه الذي يخلّد أعمال صاحبه في عالم الخلق.  ذلك لأن التعبيرعن المشاعر ما هوإلا وليد الشحنات العاطفية الدفينة ذات الطبيعة المؤلمة

قسّم الشاعر بدوي الحاج ديوانه هذا إلى أربعة أجزاء بعناوين محددة عن المرأه، والروح، والوطن، ونثريات،  تناول فيها مواضيع جوهرية تمس كل إنسان في الصميم.  وكلها تعكس شقاء الروح المعذبة، والثورة على الأوضاع المجتمعية والأنسانية البشعة، والتمرد على الأحوال السياسية والوطنية السائدة، الهزيلة الغيرمرضية، إلى جانب معاناة الغربة وعذاب الفراق.

ففي الجزء الأول من الكتاب عن المرأة، وفي قصيدة (إعزفي أكثر) يقول الشاعر:

 في غيابك »

 خسرت الدفء

 وحاصرني الصقيع!

بعيدا من وجهك ..

أرى وهما وضبابا كثيفا

أبقى غريبا غريبا

ولو في الجذور تعانقت الذكريات!

امسحي عينيك ..

فأنا أقول وداعا

«لأناشيد العصافير

وفي تحليل شعرالحاج، نتبيّن أهمية الحب العاطفي عند الشاعر – وهو الشرقي العميق الوجدان – وسببها معاناته في التنفيس عن همومه وآلامه إزاء وداعه لمحبوبته، وانزوائه، وافتراقه عنها.  خصوصا وأن عذاب الرحيل يبقى حاضرا في وجدان الفنان المبدع رغم مرورالسنين، مما يجعل للذكريات حياة دائمة ومتاصلة في الذات الواعية فتظل خالدة.

وفي نص ألابيات التالية يستشف القارئ حب الشاعرالعميق الصادق لمحبوبته وشعوره الخالص نحوها بالوفاء، وولاءه الذي ينضح بالشفافية والرقة والحساسية المتناهية فيقول:

! … رجل أحب امرأة

الأخريات، الأخريات لم يتركن أثرا

لا على الأريكة

! …ولا في الفؤاد

أنت لست كالأخريات

« ! …أنت أرقهن في جميع الحالات

لا شك في أن التجديد والحداثة في تاريخ شعرنا المعاصر، قد أدى إلى التخلي عند الكثير من شعرائنا عن تراث العروض والقوافي، واختيار الحرية في الكتابة.  ولا يمكن أن أنكرهنا أن شعر بدوي الحاج في الأدب الحديث يتّصف بالروعة والجمال في الشكل والمضمون، إذ أنه عمل على الحفاظ على إيقاع أبياته ومعانيه ذات الأسلوب الجذاب والنغم الصوتي الموسيقي الذي يُثيرعاطفة الإنسان.  فيكشف عن أحاسيس الحبيبة التي تتلهف حبا وتتحرق شوقا فيقول بلغة العاشقة في قصيدة (قالت ..)

خذني إلى الرمل، بعد أفول الغياب »

فرذاذ الموج يغويني ..

خفيفا

 ! …كروح على جناح فراشة

خذني إلى هناك كل مساء

فأفيق من سفري،

! …حيث يكون تراب، حيث يكون ماء

خذ ما استطعت من خمر

… وماء

دوائر، إضافية، بين نقاط مبعثرة

خذ ما أردت من كؤوس

… ونشوة

« !… دوائر، دوائر، تلامس حساسية المكان

وفي قصيدة (قال) يقول الشاعر بدوي الحاج – وهو المهندس المبدع – وقد حرص على انتقاء ألألفاظ والمعنى والفن والنغم بمهارة:

 قال: كم تشبهك تلك البيوت »

العنيدة

الواقفة في العاصفة

مفككة الأزرار

 !عارية

… يحملها وتران لنغمات العشق والهوى

… أسرّح النشوة خصلا

… أترك لاناملي عنان الشهوة

… معك أرسم لوحة

زيتها عشق

«! وإدمانها مستحيل

إن ما أهدف إليه هنا هو التعرف على معاناة الشاعر أثناء كتابته لقصائده الرّومانسية التي ظهرت في شعره، وقد يدرك القارئ الأبعاد النفسية للشاعرالتي لا تنحصر فقط في شرح المفردات اللغوية كما هو متداول لدى البعض، وإنما التوغّل في التحليل النفسي لإظهار ردّة الفعل نتيجة المعاناة الوجدانية والألم المتأصل في جذورالحب والعشق والهيام.  فقدعبر الشاعرعن نفسه بطريقة حسية وفنية لتخرجه مما يعانيه من أوجاع الشوق والحرمان

وفي مستهل الجزء الثاني من الكتاب بعنوان الروح في قصيدة (ما بين الملح والماء) ، يعبر الشاعرعن حزنه وغلبته في اختلاس الروح حين يقول: « يسرق الروح، … يأخذني الأزرق عميقا .. بين الروح والجسد.».  وفي قصيدة (غير مبال بفرح المكان) يطلب الرجوع إلى أرض طيبة، فتراه يشتاق إلى عودة الروح الناصعة «أريد أن أعود إلى أرض مياهها صافية ! » ، ولأن «في العتمة كل شيء مباح» يدعو إلى تحطيم «جدار الليل» قائلا « ابحثوا عن الضوء.. ابحثوا عن النور»

أما في (ما بين غياب وغربة) نرى الشاعر هنا ينشد التفاؤل بالخلاص مما هو تالف، على أمل التغييروبناء مجتمع جديد، حيث «ليس هناك من موت إن لم تكن ولادة..! … أيها الطائر غرّد …فإن الطيور التي لا تغرد تموت

وفي الجزء الثالث من الديوان بعنوان الوطن، في قصيدة (نكاية بالطائفية !) نرى الشاعر يعبرعن سخطه متمردا على المجتمع المتدهور إلى الوراء من جرّاء الحرب ومؤثراتها، خصوصا بعد رجوعه إلى وطنه لبنان بعد عشرين عاما فوجدها « ثكلى وجريحة وجائعة ومريضة وقبيحة …  بيروت، وحدها الحرب علمتها كيف تموت! » .  ثم يستمر الشاعر في التعبيرعن غضبه وثورته الهوجاء!!  ولا يفوتني هنا أن أذكرانني عند قراءتي الكتاب مؤخرا حاولت أن أعود إلى هذه القصيدة بالذات تذوقا وفهما لأهمية موضوعها، وقد استرعى انتباهي انتفاضة الشاعر، خصوصا وأنني كنت قد سمعتها بصوته عند إلقائها يوم توقيع كتابه، فأحسست بها ووقفت على مضمونها حيث هزتني الفكرة في الأعماق، فقمت بتسجيلها على الفور ونشرها على صفحتي على الفيسبوك

 نكاية بالطائفية »

… سأواجه كل عصاباتها المسلحة فكريا

…  نكاية بالمذهبية

 سأعتنق البوذية وربما اليهودية

أعود ملحدا

«!… كافرا بالقضية

« وفي قصيدة (أنا طفل فلسطيني!) يعبر الشاعرعن رثائة لفضلات « الباقي من فكرالعروبة … جوارب مهترئة …مرتخية … مثقوبة على كل الصعد! الباقي هو عناوين واهية .. خيالات محتضرة .. في أزقة معتمة

ولذلك – في هـذا التحليل – فإن الشاعر بدوي الحاج، يظهر وأنه من طائفة الشعراء المصلحين، شاعر يضرب بمجاديفه في عباب المجتمع المضطرب الصاخب، حيث لم ينسحب، وإنما نراه يشارك في سخطه على المجتمع، ولا ينسى أن يقدم لهم نموذجا يحتذى به ليستيقظوا ويفيقوا من غفلتهم أو ينهضوا من سباتهم و يتعظوا.  وهنا تكمن الرسالة الهامة للشاعر باعتباره قائد، واعتماده التوبيخ والإصلاح لما يقلقه

ففي قصيدة (أعظم الأبطال ..) يتساءل الشاعر بدوي الحاج مقرراً بصيغة الاستفهام في مواجهة مفتوحة، وهوالثائرالمتمرد على ألاوضاع الفاسدة فيقول

 كيف لنا أن نقود ثورة !؟ »

وفي عروقنا خمول

وفي رؤوسنا ذهول

! … فوق سطوح الأبنية الفخمة

« ننظر إلى عتمة الاقبية

وفيما سبق تتجلى مهارة الشاعر في انتقاء الألفاظ في النص الشعري إذ يستقي البلاغة اللغوية من صميم مهنته في الهندسة المعمارية ومن تجربته وثقافته الذاتية.  ثم يستمر في سخطه موبخا «أيها الحاقدون، ألم تتعبوا؟…القتل لديكم هواية…لا عيب فيه ولا بداية .. » .  وأستطيع القول هنا أن الشاعر ينتج شعرا يعبر فيه عن السخط بصورة مستحسنة مقبولة، فتراه شاعرا مبدعا، يتجه ببصره إلى البواطن الدفينة التي تكمن وراء الظواهر في حياة عصره، كما ويتجه بكل بصيرته للغوص في اللاشعور ليخرج المستتر إلى النور، ولذلك تراه موفقا في إبراز حقيقة العصرالذي يعيش فيه

وفي الجزء الرابع بعنوان (نثريات) يؤكد الشاعرتفاؤله جازما، يبدأها قائلا «النهرلا يعرف سوى السير إلى الأمام، دون التفاته إلى الامس، فلا ينحرف ولا يحيد» ..وإن كان يعلن عن بؤسه في نفس القصيدة قائلا «إنه الهبوط غريبا في منتصف هذا الكون .. أكتب قصائد للريح» ،  فرغم نثرياته الحزينة الدامسة، إلا أن الشاعر قد أفصح عن شخصيته الإيجابية النيّرة إذ كان مشغولا يبحث عن بصيص من النورالمستتروسط الظلام الحالك، فكانت خاتمة كتابه هذه الكلمات الرقيقة «كنت منشغلا بالقنديل والضوء المنسلّ من النافذة

إنه في اعتقادي أن واحدة من مهمات الأدب الأساسية هي الكشف عن حقيقة الإنسان كما هي واقعة، فيلقي الضوء على الجوانب الإيجابية والسلبية على السواء.  فالشاعر النافذ البصيرة يعيننا من خلال أشعاره على فهم أنفسنا وإدراك نواقصنا، والخبرات الجديدة التي نكتسبها، والتي تؤثر فينا وفي عصرنا خصوصا في القرن الواحد والعشرين.  فنراه – وهو الشاعر الذي يلتمس الطريق إلى قيم جديدة – لا يبتغي إلا أن يعبّرعن قلقه، فهو ينشئ إبداعه وينظم شعره ليعيش فيه فرارا من واقع قاتم قائم.

الكتاب «لاهثا يبتلع الهواء» للشاعر المهندس بدوي الحاج، الطبعة الأولى عن «دار المؤلف» بيروت – لبنان، قد تم إطلاقه في سيدني في9 ايلول 2017. عدد الصفحات 119 ورقة ذات الحجم المتوسط، فيها من ثراء الشكل والمضمون من حيث البنية الشعرية في الأفكار والعاطفة الجياشة والأسلوب والحس المرهف