حصاد مر) كتاب د. سليم نزال)
من الأيدويولوجية إلى الموضوعيه وسوسيولوجيا الأمل
By Marcelle Mansour بقلم مارسيل منصور
د. سليم نزال ، أستاذ الفكر والقلم الحر، في ثورته الفكرية هذه يتجاوز حدود الأقاليم ، فهو المفكر الثوري الذي يتخطى الزمن ويجتاح المسافات وسط استيطان الغربة التي تكشف عن جراح الوطن والأوطان معا ، فتحكي للعالم حصاد مرارة التاريخ التي غرس فيها آلامه وآماله خارج حدود فلسطين ، حيث يصيرالإنتماء نضالاً ضميرياُ وليس جغرافياً
إنه لا مناص لكتّاب عصرنا من المشاركة في روح عصرهم إيجابياً , وفي عصرنا هذا مشكلات عويصة تعددت ألوانها ، لكنها على اختلافها تتشابك كلها في جذور أصيلة ، لعل أهمها هو قلق الإنسان منا على إنسانيته ومجتمعه ووطنه .
قيل أن ” ضمير الأمة في كتّابها ” ، لأنه قد يختلف الناس والشعوب كثيرا في شئون الحياة الجارية وطريقة تنظيمها اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً ، لكن هناك ضرورة في بعض المواقف ، ما أن يختلف في شأنها البشر حتى تتأرق لها الضمائر في النفوس ، حافزة أصحابها إلى الجهر بالرأي الذي يرونه صواباً ، ثم الدفاع عن هذا الرأي مهما تطلب ذلك من كفاح وتضحية . وتلك هي المواقف التي تمس إنسانية الإنسان والوطن ، كالعدل والمساواة والديمقراطية وتحريرالشعوب من براثن الإحتلال والقضاء على التطرف والإرهاب ، وغيرها من القيم والمفاهيم الضرورية في حياتنا ، والتي مازالت تتأرجح ما بين الوقوع تحت فخ “الأيدويولوجية” و البعدعن صحة ” الموضوعيه” .
فقد صدر كتاب جديد للمؤلف والمؤرخ د. سليم نزال عنوانه (حصاد مر) ، قام بتقديم الكتاب الاستاذ عصام مخول – رئيس معهد إميل توما للدراسات الفلسطينية والإسرائيلية في حيفا – بشكل مسهب هو أشبه بتلخيص كامل للكتاب . وكتب المقدمة المؤلف نفسه إذ يقول فيها أنه يضم مجموعة متنوعة من المقالات المختارة التي تطرح مسائل عديدة في الفكر والثقافة والتاريخ والإجتماع السياسي ، فهو يسعى من خلاله إلى طرح أفكار نقدية ، من أجل إلقاء الضوء على ما يجري في المنطقة العربية لتوضيح وفهم طبيعة وتأثير زلزال الفوضى والتعصب وثقافة دكتاتورية الحقيقة والعنف اللامحدود . ومن جهة أخرى التأكيد على ضرورة احترام ثقافة التنوع والتعددية الدينية والسياسية التي تحتم علينا إستمراريتها ، كذلك إشكاليات العلاقه مع الآخر في الغرب ، والجوار العربي وتحليل ظاهرة الإسلاموفوبيا ، إلى جانب نظرته التحليلية في القضية الفلسطينية ص14
وسط خضم كل هذه المواضيع ، وقفت لحظة أفكر ، عندما أخذت أقرأ كتاب (حصاد مر) ، وطالعت جميع المقالات فيه ، فرأيت أن هذا الأديب المفكر – والكاتب المسرحي والباحث والمؤرخ الفلسطيني المقيم في النرويج – د. سليم نزال ، يعاني ما يعانيه جميع الفلسطينيين سواء في أرض الوطن أو بلاد الشتات ، كما ويعانيه الجمهور من أفراد ومجتمعات البلاد في الشرق الأوسط ، ولكن هناك الكثير من طبيعتهم الصمت الذي لا يفصح ، والمبدع أوالأديب بينهم هو وحده الذي ينطق ويعبرعما يودون قوله . ولذلك لعل القارئ يجد في هذا الكتاب أن المؤلف د. سليم نزال هو بمثابة ضمير حي خاص لنفسه ، وعام لوطنه ولجميع الناس . .
فهو يستمد مواده و يستشهد عليها من وقائع وشواهد التاريخ – وفي اعتقادي أن هذه الشواهد كلها تدل على أن الأديب الحق – سواء كان من أصحاب الخيال المبدع ، أو من أصحاب الدعوات الفكرية ، إنما يقوم برسالة الإنسانية التي تهم العالم أجمع .
سؤال استوحيته من قراءتي لهذا الكتاب: ماذا صنعت لنا خمسون أو سبعون عاما في حياتنا السياسية والمجتمعية والوطنية والفكرية والثقافية ؟ ، والجواب هو “حصاد مر” !!! وربما يقودني هذا إلى السؤال التالي في تقييمنا : كيف السبيل إلى حل؟ !!! والسؤال اللاحق الحاسم هو: كيف يمكن أن يتحقق أملنا في التغييرالحقيقي؟!!! مثل هذه الأسئلة وغيرها تدور في خلدنا ونستشف الإجابة عليها من خلال المواضيع التي يطرحها المؤلف ويحاول معالجتها ، وكلها تمس القضية الفلسطينية في الصميم ، والإشكاليات العربية في العمق ، وربما بعض الأزمات العالمية ككل ، إذ يجيئ لنا المؤلف بشخصية تنويرالعصر، فهو يؤمن بالعلم ، و بالتقدم , و بمصير الإنسان ، ويدعو إلى حرية الفكر بادئاً من سرد وتحليل التاريخ ومنتهياً إلى كرامة الإنسان . لقد استمد فكره وأدبه وفعله من نظرته الثاقبه وإبحاره في الأغوار ، وكل هذه جميعاً صيغت وأشرقت لنا في قالب مختزل وواضح كضوء الشمس . ولهذا كنت أود لو أنقل إلى القارئ بعضاً من مقتبسات الكتاب ، ولكني أكتفي هنا بإلقاء الضوء على بعض النقاط التالية :
استوقف نظري فيما قرأت ، قوله “…ولكن أكبرخطر يتعرض إليه الباحث ، هو خطأ الوقوع تحت تأثيرالأيدويولوجيا …لأنه في هذه الحاله لن يكون في وسع الباحث العثورعلى فهم أشمل “للإشكاليات” المطروحه خاصة في الصراعات السياسية ، لأن كل طرف يستخدم التبشير بفكرته .”ص12 ، ثم يشير إلى أن “الموضوعيه هي نقيض الأيدويولوجيا إلى حد كبير.”ص 13، وبالتحديد “ألموضوعيه النسبية” كما شرحها المؤرخ الإنجليزي ادوارد كار. فالمؤلف هنا يلفت أنظارالعرب إلى أهمية “الموضوعية” في السعي وراء فهم الحقائق بأعلى نسبة ممكنة من بين أكوام”الأيدويولوجيا” الكثيفة خاصة في الصراعات الحالية .”ص 12 ، عن طريق الغوص في العمق والنقد والتحليل ، خصوصاً وأن “الموضوعيه لها حضور ضعيف في الثقافة العربية.” ص12 . يقول المؤلف ان السبب الذي دفعه إلى التفكيرفي هذا البحث ، هو “الهجمة الشرسة” التي استهدفت وتستهدف “الذات” الحضارية العربية والإسلام ،عن طريق التشويه الإعلامي الغربي السلبي عن العرب ص43 . وتجاهل التاريخ العربي لمرحلة ما قبل الإسلام ، و”المغالطة بين العرب والبدو” ، وتعميم تعبير”الجاهلية ما قبل الإسلام” ،”والوجود العربي المسيحي” ، وحركات التفاعل الثقافي . “إن العامل الأساسي في ذلك هوغياب القراءة ” الموضوعيه ” في الغرب ، والسبب في رأي المؤلف أنه يعود إلى تراث غربي يملك نظرة سلبية عن الشرق ، وخاصة ذلك الشرق الذي تصارع مع الغرب لفترات طويلة.” ص46 مثال على ذلك تغييب شخصية الإمبراطور( فيليب العربي 249-244) عن دوره المهم في إيقاف اضطهاد المسيحية ثم الإعتراف بها كديانة ، فلولا إيجاده للتسامح الديني لما استطاع الإمبراطور قسطنطين أن يتبنى المسيحية ص44 ، وأهم مصدر تاريخي لذكر الإمبراطور فيليب العربي هو المؤرخ الفلسطيني يوزابيوس القيصري الذي توفي عام 299 فكتب أن فيليب العربي هوأول امبراطور روماني يعتنق المسيحية ، وفي رأي المؤلف أن الإمبراطور فيليب العربي – وهو المولود في سوريا – من أسرة تعود جذورها إلى الجزيرة العربية ص 45 . ومن هنا يستخلص الكاتب بأنه لا بد لنا من البحث في التاريخ ودراسته بعمق من أجل “معرفة الذات” ص47
على ضوء ما سبق يجعلني الآن أتطرق إلى النقطة التالية ألا وهي أهمية “معرفة الذات” من أجل تفكيك “صورالنمطية” – وأول ما يرد إلى خاطري في هذا الصدد – بناء على شرح الكاتب — هو نمطية “الاسلاموفوبيا” ، إذ يطلعنا على تاريخ القرن التاسع عشر حيث بزغ علم الانثروبولوجيا لدراسة الشعوب الغير أوروبية ، وظهرالإستشراق الغربي الذي صور العرب في الشرق بطريقة هزيله ، والذي انتقده بشدة المفكرالأمريكي الفلسطيني ادوارد سعيد في كتابه (الإستشراق 1978) بوصفه افتراضات أيدولوجية من بدع االفكرالغربي ص28 ، وهنا ينقد الكاتب الصورة النمطية القديمة في الغرب ، فمثلاً “أطلق المستعمرون وصف الكنعانيين على السكان الأصليين على أنهم أثل حضارة …” ص27-28 ، وأن هناك علاقة مؤكدة ما بين الصور النمطية ومستوى المعرفة الحقيقية أو المتخيلة
ثم يشرح المؤلف إشكالية الصراعات المتعددة في التاريخ بين الشرق والغرب ، مثل صراع المصالح والصراع الشامل بكل الأبعاد السياسية والعسكرية والثقافية ، والصراعات المتعددة الأبعاد التي تشمل الجيوبوليتيك والإقتصاد والثقافة والتثاقف ، والصراع الحار والبارد وغيرها ، الأمر الذي يؤدي إلى “صور نمطية” عبر الزمن بسبب الصراعات المتواصلة عبرالتاريخ ص29 . وفي هذا السياق يقول أنه استعمل كلمة (إشكالية) لأن التعريف معقد وليس من السهل تفسيره قطعياً “ص50
وفي رأي الكانب أن إشكالية “الإسلاموفوبيا” ما هي إلا واحده من نتاج تلك الصراعات ومن أمثال “الصورالنمطية” التي يسعى المؤلف إلى فهم وتفسير ظاهرتها وتفكيكها ، مشيراً إلى أن أهم عمل نقدي لنقد ظاهرة الصورة النمطية تجاه المنطقة العربية هو بلا شك كتاب ادوارد سعيد ( الإستشراق 1978) قبل أن يصبح مفهوم الإسلاموفوبيا متداولاً ص54 ، إذ قام بتفكيك الصورالذهنية التي هي بمثابة الأب الشرعي الذي يحمل الجينات لذات التصورات الثقافية والتي من أهم خصائصها ثقافة الشك والإستعلاء والكراهية لعموم العرب والمسلمين .”ص55-54 . ولعلني أذكر هنا ما أشار إليه المؤلف عما قاله صمويل هننغتون “في رؤياه لمستقبل الصراعات في العالم في عام 1993 بأنها لم تكن أيدولوجية بل ثقافية ، وبعدما قسم العالم إلى سبع ثقافات رئيسية ، اعتبرالإسلام سيكون مقاوماً للحضارة الغربية .”ص58 . أما الأسباب الثلاثة التي لعبت دوراً في تشكيل هذه الظاهرة – في نظر المؤلف – فهي هجرة الملايين من المسلمين إلى أوربا والتطرف الديني والعنف الأعمى كعاملاُ أساسياٌ ، والصراع مع إسرائيل مع ضعف منظمة التحرير الفلسطينية منذ عام 1982-
وعن إشكالية داعش ، فيراها الكاتب انها نتيجة لانهيارعام في منظومة القيم المتعارف عليها منذ مئات السنين . ففكر التطرف لا يأتي من السماء ، إنما هو حصيلة ظروف وعوامل متعددة .”ص178 ، و”الآن في ظل هذا الخراب وتمدد الأصوليات التي تدمرالتعددية الحضارية ، فإن النتيجة المؤكدة هي تجريف حضاري وكارثة حضارية وإنسانية غير مسبوقة في تاريخ المشرق . “ص178 ، كما وأنه لا بد من “إعادة الإسلام لوضعه الطبيعي كدين يحض على العدل و التسامح واحترام الإنسان .”ص181 ، لأنه “… من حيث البعد الإنساني ، فكل البشر متساوون في القيمة الإنسانية.”ص40
يسهب المؤلف في شرح العديد من النقاط التاريخية في التحليل والنقد ، ثم يدعو إلى تغيير الصور ذات الطابع النمطي ، إلى جانب المسألة الشرقية ، “وحماية المسيحيين من المتطرفين في الجانب الإسلامي مقترحاً بعض الحلول للنهوض بمجتمعاتنا من أجل الحرية والديمقراطية والمشاركة السياسية وضمان حقوق الجميع . يمكن تحقيق ذلك عن طريق حوارات ومصالحة تاريخية مع الحضارات المجاورة للعرب ص 67 ، كما ويدعو إلى ضرورة أن يكون لفلسطين بما تمثله من حضور تاريخي وروحي عظيم دور هام في هذه المحاورات . ويشجّع أيضاً أفكار طه حسين التنويرية بالتمسك بالهوية الوطنية والإنفتاح على الثقافات ص74 ، ويرجّح أيضاً ثقافة مجتمعات الحداثة عن “الثقافة اللفظية ” أو”الظاهره الصوتية” ص79 التي سمحت للعرب” ترسيخ ثقافة التسلط في الحياة السياسية والإجتماعية.”ص82 . إن مشروع التصدي لفكر داعش وأخواتها لا يمكن أن يتم إلا من قبل قوى تمثل نقيضاً لهذا الفكر ، وهذا عمل تراكمي يحتاج لجهود جبارة من قبل المؤمنين بثقافة التعايش وقبول الآخر والتسامح.”ص176 . لقد أدى نهج تسييس الدين إلى تلك الكوارث التي نشاهدها في أجزاء كثيرة من الوطن العربي ، وحان الوقت لتخليص الدين من براثن من يريدون تسييسه لجعله أيدولوجية سياسية هدفها السيطرة والتحكم بمجتمعاتنا وبلادنا .”ص181
وأخيراً وليس آخراً يدعو المؤلف إلى خلق “سوسيولوجيا الأمل” التي تعتمد على استيراجية ضرب الجذورالفكرية المنتجة للتخلف وثقافة التطرف والإلغاء والإقصاء .”ص182، كما ويدعو أيضاً إلى مقاربة جديدة أسماها “استراتيجية الأمل .”ص187 . و الخلاصة أن هذا كله سوف لايمكن تحقيقه في تذويب إشكاليات الصراعات التاريخية إلا عن طريق التغيير والتحول من الأيدويولوجية إلى الموضوعيه واعتناق سوسيولوجيا الأمل في البحث العميق عن الذات والهوية من أجل تفكيك صورالنمطية والإنفتاح على الثقافات في ظال التسامح وتقبل الآخر
كانت هذه بعضاً للنقاط الهامه التي جاءت في كتاب (حصاد مر) . إن القارئ لهذا الكتاب سيجد سهولة في الاستيعاب ، وسيحصد ثروة تارخية تحليلية ونقدية عميقة ذات معرفة واسعة وثقافة عالية