التقديس التاريخي لأول قديستين فلسطينيتين هونصر ومؤشر لولادة جديدة

 By Marcelle Mansour بقلم مارسيل منصور
يعتبرالتقديس التاريخي لأول قديستين فلسطينيتين عربيتين من قبل البابا انتصار آخر للفلسطينيين، منذ إعلان الفاتيكان لاتفاقية “دولة فلسطين” قبل عامين، لأن في ذلك دعوة حيوية لإحياء الخارطة الفلسطينية، وتشجيع العمل قدماّ نحو تحقيق السلام العادل.
ففي يوم الأحد 17 مايو أيار، حضر جمهوركبير يقدر بأكثر من 3 آلاف مسيحي من الفلسطينيين من أنحاء العالم في ساحة القديس بطرس في حاضرة الفاتيكان، بحضوررئيس دولة فلسطين محمود عباس، ووفد فلسطيني ديني وسياسي رفيع المستوى، ورؤساء المجالس المسيحية بما فيهم مجلس الحوار مع الأديان، وجمع كبير من الكرادلة والأساقفة من الفاتيكان وباقي بلدان العالم، من أجل الاحتفال بمراسيم هذا التقديس الهام، للقديستين ماري ألفونسين غطاس (1847-1927) من القدس، مؤسسة جمعية راهبات الوردية، في مدينة القدس، والراهبة مريم ليسوع المصلوب بواردي حداد (1843-1878) من الجليل، ومؤسسة دير راهبات الكرمل في مدينة بيت لحم ودير كنيسي الهند من الجليل، وكلاهما عاشتا في الأراضي الفلسطينية تحت الحكم العثماني خلال القرن التاسع عشر.
وقد ينظر بالطبع إلى هذه الخطوة على أنها دعم من الفاتيكان للمجتمعات المسيحية التي تعاني من التناقص الملحوظ في أعدادها في الشرق الأوسط ، ولذا فإن هذه الخطوة هي بمثابة محاولة فعالة بالنسبة إلى روحانيات المشرق العربي وبالذات الفلسطيني، ولعلنا نرى فيه أهمية بالغة، ومؤشر بداية لولادة جديدة في العالم السياسي المعاصر. خصوصاً في مسألة القضية الفلسطينية وعرقلتها، وتحريرالأرض من براثن الاحتلال وتعسفية الصهيونية. فهذه القضية المستعصية كانت وما زالت من أهم القضايا المحورية التي تشغل ساسة العالم ونقادها، وقد اهتموا مرارا ًفي معالجتها ووضع الحلول لها دون جدوى، وذلك لأن هناك حلقة مفقودة مستديمة، مما يجعل محاولة المحاورة السياسسية متحجرة ومتجمدة، وتحتاج إلى خطة فكرية جديدة – في اعتقادي- فيها مسحة من الروحانية واالإبداع والتجديد. فالصلة هنا قائمة بالفعل على العمق في سدّ هذه الحلقة المفقودة.  ولذلك فإن مانراه في بعض جوانبها أنها تتخطى إلى ماهوأبعد من ذلك بكثير.
فعلى الرغم من أن هذا الحدث في مظهره احتفال ديني إلاّ انه يحمل في طياته رسالة وطنية سياسية بشكل إيجابي. مثل هذا التطورهو نقطة انطلاق حديثة، قد تكون له أهمية كبرى، ومن المرجّح أن يكون له تأثيركبيرفي دفع عملية السلام والنظر في تسوية النزاع من خلال المفاوضات الثنائية المباشرة. نأمل أن يترتب على ذلك مستقبلاّ إزالة العقبة الرئيسية لتسريع التقدم للسلام في المنطقة، ولعله بشكل غير مباشر يساهم في مساعدة الفلسطينيين علي إقامة “دولة فلسطين” مستقلة ذات سيادة وديمقراطية.
كان الفاتيكان قد رحب سابقاً بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2012 بالاعتراف ب”دولة فلسطينية”، كما واعترف رسميا ب”دولة فلسطين” في معاهدة جديدة أبرمها في 15 مايو أيار 2015، إذ تزامن هذا الحدث الكبير مع الذكرى السابعة والستين للنكبة. ولا شك أن السلطة الفلسطينية قد تعتبرالفاتيكان واحداً من 136 دولة اعترفت بفلسطين كدولة، وهذه المناسبة المقدسة فقد تم اعترافها صراحة بالدولة الفلسطينية. هذا ما أكده وزيرالخارجية للفاتيكان المونسنيور أنطوان كاميليري، الذي صرح بالتغيير الراهن في الوضع السياسي، حيث تنص الاتفاقية الجديدة على تحويل العلاقات الدبلوماسية من منظمة التحرير الفلسطينية الى “دولة فلسطين” ، وهذا يعني فعلا الاعتراف بوجود الدوله الفلسطينية.  كما وعبرعن أمله في وضع حد للتوترات بين الفلسطينيين والإسرائيليين وبدعم وجود دولتين، مستقلتين منفصلتين تعيشان جنبا إلى جنب في أمن وسلام.
على الرغم من أن هذه المناسبة المقدسة قد تم تفسيرها من قبل بعض الأطراف ، باعتبارها تدخل إيجابي من قبل الفاتيكان في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، كما وعبّرت إسرائيل عن خيبة أملها في المعاهدة التي تخدم مصلحة «الدولة الفلسطينية»، إلاّ أن حدث التقديس هذا يعتبر بالغ الأهمبة وله أكثر من مغزى من جوانب عديدة : فهو يعتبر رسالة قوية من الكرسي الرسولي على أن وجود المسيحيين الفلسطينيين متأصل الجذور في أرض فلسطين والقدس منذ الأزل والتي تسمى الآن إسرائيل (بعد الاحتلال 1948)، وأن المسيحيين الفلسطينيين لديهم تراث عتيق منذ أكثر من 2000 عام، وانهم كانوا يعيشون فعلياً في ذلك الوقت في زمن يسوع المسيح عليه السلام  وعلى نفس الأرض التي عاش عليها حيث انه هو نفسه كان فلسطينياً.
هذا وأن التاريخ يؤكد للعالم أيضاً أن الفلسطينيين قد عاشوا تحت الحكم العثماني في القرن التاسع عشر وأنهم ساهموا في بناء المجتمع المتنوع، وكانوا جزءا لا يتجزء منه، والعيش في تسامح وسلام وانسجام مع الآخرين بما فيهم المسلمين، كما وأن ذلك يثبت للعالم أنهم ليسوا حثالة، خلافا للدعايات الكاذبة والبروبوغاندا التي ابتدعها الصهاينة .
 ففي عام 1948، عندما أنشئت دولة إسرائيل ، كان يمثل المسيحييون في فلسطين نحو 18 في المئة من السكان، على مر السنين أخذ هذا التضاؤل في التزايد إلى أن أصبح الآن أقل من اثنين في المئة، حيث أن الآلاف منهم فد تعرضوا للمعاناة في ظل الأوضاع السياسية مما دفعهم إلى مغادرة فلسطين. وقد ينظر بالطبع إلى هذه الخطوة على أنها دعم من الفاتيكان للمجتمعات المسيحية التي تعاني من التناقص الملحوظ في أعدادها في الشرق الأوسط. ولهذا فإن هذا الحدث له من الأهمبة البالغة مستقبلاً في أن يضع فلسطين مرة أخرى على الخريطة، ليس فقط بين العالم المسيحي، وإنما العالم بأسره، وسوف يساعد الأمم أيضا على أن تفهم أن أرض فلسطين كانت موجودة منذ مئات السنين، وكان يسكنها الفلسطينيون العرب قبل احتلال اسرائيل ، وأنهم قضوا وما وما زالوا يقضون عمرهم في الدفاع عن حقوقهم المشروعة في استرجاع ارضهم التي سلبت منهم.
إن هذا الحدث الديني لديه أيضا رسالة وطنية أخرى، فبما أن الراهبات هما من المسيحيين الفلسطينيين العرب، وبالتالي فإن العرب الفلسطينيين فخورون بأن لديهم من قديستين اثنتين من فلسطين، مسقط رأس يسوع المسيح عليع السلام والذي يمكن أن يكون له تأثير كبير في إلهام الفلسطينيين على التحول الروحي وكيفية التغلب على كل المشاكل المحيطة بهم. كذلك هناك رسالة أخرى دلالتها بِان يفهم العالم أن الشرق الأوسط ليس فقط ما تروجّه الإشاعات وعناوين وسائل الاعلام من العنف والإرهاب، وإنما هذه الشعوب الناطقة باللغة العربية لديها تاريخ غني،  يتكون من المجتمعات  المتعددة والمختلفة في منطقة الشرق الأوسط، مثل الأقلية المسيحية التي ساهمت بشكل ملحوظ  في بناء الدولة الفلسطينية، وفي التراث العالم الثمين وبناء السلام في العالم.
 كذلك ، فإن هذا التطور التاريخي قد يظهرأيضا الوجه المشرف للبابا، دينيا وسياسيا، على أنه بالفعل يهتم بفلسطين وبالشعب الفلسطيني وذلك لأنه يعرف “الحقيقة”.  إن عمله هذا في الحقيقة هو خطوة إيجابية نحو التغيير الاجتماعي والسياسي من أجل الانخراط في عملية السلام والعدالة والحرية، وإنهاء الاحتلال الصهيوني الذي لا يزال مستمراّ منذ سبعين عاما.  ففي الواقع، إن قضية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي قد يتعلق بالأمم ويخص العالم أجمع، ولا بد من حتمية إيجاد الحلول المرضية وإعلدة صياغة الواقع من الحرية والعدالة والسلام العالمي. على أمل أن يجد قادة العالم لأشلاء القضية الفلسطينية شرياناً قد يجعلوا منه كائناً حياً حساساً لما حوله على النحو الذي يؤكد البقاء والوجود من أجل التغيير بنظرة حديثة حيوية خلاقة.