By Marcelle Mansour بقلم مارسيل منصور
قرأته وأعدت قراءة بعض فصوله ، فوجدت أنه كتاب ممتع حقاٌ … ونافع بأدق معانيه فى هذا الكتاب ” أحاديث قلم في مرايا الذات والمجتمع”، رحلة جميلة فى تأمُّل الذات وما حولها ، حيث اجتاز الكاتب الأب يوسف جزراوى مواقف متعددة من الحياة ، استطاع خلالها أنْ يعكس مرايا وقفاته الفكرية والوجدانية المُحّددة ، قوامها أنَّ حالة التأمّل هي الحالة الأكيدة التي تُخرج الإنسان من واقعه المُحدود . فالإنسان المتأمل البصير يستطيع أنْ يرى شُعاعاً من النور قد يكون هو الرؤية الحقيقية التي يستشف من خلالها المعانى الصحيحة للمفاهيم الضرورية لحياتنا مثل : التحرر و الحرية ,المسئولية والإنسانية وغيرها ، حتى يُغيّر من واقعه إلى الأحسن
لقد أختار الكاتب الأب جزراوى من أعمالي الضوئية لوحتين بعنوان “التحرر” و لحظه التحول” لتكونا علي غلافيّ الكتاب ، وطلب مني إبراز معانيها ، و هي أنَّ التأمّل فى الذات وما حولها من خلال النور ، والغوص في أغوار النفس البشرية ، هى حالة تولّد فى الإنسان طاقة جديدة ليكتشف حقيقة نفسه والعالم من حوله حتّى تتسع أمامه رقعة المعانى ، فينطلق إلي العالم الرحب بمنظار جديد . وإن المحور الأول والأخيرهنا هو “الإنسان” و”الإنسانيه” من أجل التغيير إلى الأفضل
وكما نعلم أن حياتنا على امتداد ما يحدث في القرن الواحد والعشرين مضطربة الأمواج ومهتزلة المعايير، إذ أن عصرنا يكتنفه كثير من الضباب ، لأنه عصر التحولات السريعة والأفكار المتعددة . إننا في هذه المرحلة التاريخية المعاصرة والأوضاع السياسية والإجتماعية الراهنة التي يجتازها الفرد منا سواء في بلاد الأم أو بلاد المهجر لفي أشد الحاجة إلى من يبرز خفايا ذواتنا ، ويحلّل اتجاهاتنا الفكرية والإبداعية ، ليكشف لنا عن الجوهر الكامن وراء ستائر الإضطرابات المبهمة ، في ظل واقع التعدد والتنوع قي الفكر الفردي والثقافي عند الأفراد و المجتمع
ولهذا فإن الأب جزراوي اعتمد قي كتابه هذا أن يخوض غمار مواضيع شتى يتوق القارئ إلى استيعابها ، وهوالأديب الأسترالي العراقي الأصل ، و في هذا العام يطرق الباب الخامس والثلاثين من بوابات العمر ، وينجز الكتاب السادس والعشرين. وإن كان لا مجال هنا لأن ألخص الكتاب كما ينبغي تلخيصة ، فرأيت أن أسهب للقارئ الفكرة العامة عنه بإيجاز شديد كما يلي
الكاتب يحكي أولاٌعن الذات المقهورة ، والتي طٌبعت ملامحها على ذهنه ،”نتيجة ترصدات وتحليلات لوقائع إجتماعية وسياسية عصفت بالفرد الإجتماعي ، ولا غرابة في أن هذا الشعور بالألم ، جعله يطلق على مهزلة “الربيع العربي” اسم “الربيع الدموي” ، وعلى بغداد “أرملة الفرح” بعد أن كانت مهد الحضارات والأديان … ومدينة الجمال والحياة” . من كلماته :”متى ستتحول أحاديثنا من الموت إلى ثقافة الحياة ، من لغة الحرب والإقتتال والعنف إلى لغة المحبة والسلام؟ “
يبدأ الكاتب في الباب الأول بالحديث عن مأساة العراق ، وصخب الحروب ، ورحلته في رحاب الذاكرة البغدادية الموجعة ، فيتحدث عما يفتقر إليه الناس في العراق ، مقارناٌ أوضاعها بتقدم بلاد الغرب في أوروبا واستراليا مثل المنهج التعليمي في المدارس ، حيث فشل التعليم ، وسوء العوامل الإجتماعية والتعصب والعنف ، كلها من الأخطاء الشائعة في مجتمعنا ص 91. ثم يكتب عن “حدائق التوازن النفسي” في أماكن البلدان التي زارها مثل السويد وهو ” الراكض في دروب الغربة وراء الطبيعة والفن والموسيقى” إذ تيقّن أن للطبيعة دوراٌ للإنسان في صقل ذاته وتهذيب طباعه ، وجعله أكثر شفافية وسلاماٌ
وفي الباب الثاني بعنوان “من قلب المجتمع” ينتقل إلى الفلسفة ومعرفة الذات فيقول :” إننا نجيد التعرف على العالم من حولنا ، ولكننا لا نحسن البحث عما يكمن في ذاتنا” ، فيحكي عن الطلاق “وفتح جراح المعذبين في قفص الحياة الزوجية “، وعن حيرة بعض الرجال في بلاد الغرب ، وأوضاع المرأة العراقية المسيحية في ظل مجتمع ذكوري يسوده مفهوم أنا الرجل سي السيد ص 49 ورأيه في المرأة بأنها ليست رفيقة فراش ، بل شريكة حياة وإنسانة لها كرامتها ص 105. أما عن موضوع “مشانق التعميم” فهو ضد تعميم الأمور وخلط الأخضر مع اليابس ، مع تفضيل التشخيص والتحديد والتمييز. ص 74 ، وهنا يشير إلى أن هولنده هي عاصمة الإنسان والإنسانية . وتحت عنوان” بلدان إنسانية الإنسان” يعطي الكاتب مقارنة خاطفة بين الشرق والغرب حيث ” سيدني المعجونة بالقيم الإنسانية التي تبني الإنسان” “…فحكامنا اعتادوا الإغتناء من أموال شعوبهم … وهتافات الجماهير … بينما في هولندا وبلاد الغرب ، تستهويك مصداقية العلاقات واستقامة المشاعر” . وفي فصل “حريق القلب ونزيف الذات” يحدثنا المؤلف عن مأساة عالمنا المادي المعاصر، فإن “هناك نسبة من البشر باتت تنظر ولا ترى وقد تسمع ولا تصغي ، إذ تغيرت المفاهيم عبر الحقبات لأن الدولار يتحكم في الخيار ص 98 . وهذا يؤدي إلى التفكير في القديم والجديد ، و قدرة الإنسان على التجديد ، للّحاق بعجلة التطور، فالإنسان يسعى إلى التكامل ، بفضل الله و الناس و الكون وذلك لأن يسوع المسيح الحي الأبدي ، يجدد صورة الله في الإنسان ، وأن الوحي مستمر على الدوام . وأنه لا يوجد فكر أو عمل خالص في الإنسان ، وإنما هو لمن سبقوه في الوجود بوحي من الله ، مما يفسر مقولة الفيلسوف عمانوئيل كانط :” نحن نبتدئ بما انتهى به الآخرون” ص 84 ، كما و يؤكد المؤلف مفهوم التحديث ، بحديثه عن عقدة توارث التقاليد دون التفكير في مصداقيتها، أو إبداع أفكارجديدة تفيد حاضرنا و مستقبلنا ، وأن الغرب قد وصل إلى الرقي في الحياة بسبب حرية الرأي وثقافة التنوع وقبول الآخر المكفولة للجميع . كما و تحدث عن الثقافة الجديدة التي يكتسبها الإنسان في هذه البلد ، وضرورة إحداث التغيير من اجل العيش بموضوعية ص 64 . وعن دنيا الأحلام والخلود يستدل بكلمات الفيلسوف الألماني مارتن هايديجر : “كي يكون الإنسان نفسه ، ولكي يكون حاضراٌ في الوجود ، عليه أن يكون له حضور في الحياة.” ص 118، وأيضاٌ كما قال سقراط “إعرف ذاتك” ص 124
وفي الباب الثالث والأخير بعنوان”روحانيات” يشير الكاتب إلى أننا في”زمن ضيع فيه الإنسان إنسانيته إلى حد شهدنا إنساناٌ يقتل أخاه باسم الله .” ص 153 ، فيطرح السؤال ” هل أحال الله نفسه على التقاعد؟ ثم يعطي الجواب فوراٌ :”لنفتش عن الله ” في زمن العولمة المفعمة باليبوسة الروحية وتبدل القيم والأخلاق
ولذا فالمؤلف يدعوك أيها القارئ إلى التأمل العميق في صمت ، تحت عنوان” إهتم بضجيج حياتك ” ص16ويخبرك بأن “الله لا يسمع إلا في الصمت حتى يطبع بصمته على ذاتك فتشرق نفسك إنسانياٌ وروحياٌ ،ويغدو الله حاضراٌ في حياة الاخرين من خلالك “
هذا تلخيص شديد الإيجاز لخلاصة هذا الكتاب . قالوا عنه النقاد :”حينما يكتب الجزراوي هناك متعة” ، وهنا أود أن أضيف : إن الكاتب فى أسلوبه الأنيق استطاع أن يمسّ بقلمه أوتار القلوب – ففى تدوينه و نقله لسلسلة من تجاربه الشخصية وأحاديثه مع القلم – استطاع أنْ يسلب من نفسه كوامن أسرارها ، فانتزعها من بحر أعماقه ونشرها علي الملأ . ولا بُدَّ وأنْ أُشيرهُنا إلى أنَّ الأديب الأب يوسف جزراوى – وهو من أُدباء هذا الجيل المُعاصر – أنَّ نتاجه الأدبي ذو قيمة عالية . فهو يُجسّد فيها أفكاراً عامة و عميقة ، ومهما كان في أحاديث قلمه ، فإنَّ من شأنه إمكانية التأثيرعلى قارئيه في تحويل واقعهم إلى الأفضل
وأخشى ان لا أبالغ إذا أردت الثناءعلى هذا الكتاب ذات الجهد الرائع الذى وجدت في قراءته متعة ورضى ، وأرى أنه يستحق الترجمة إلى الإنجليزية من أجل إفادة الأجيال اللاحقة . ولا يسعني إلاّ أن أهنئ الأب الأديب يوسف جزراوي على براعته الفائقة في تصوير أحاديث قلمه المنعكسه على مرايا ذواتنا و مجتمعنا ، في هذا الكتاب الذي قلما نرى مثله