بقلم مارسيل منصور
بمناسبة مرورالأربعين عاماً من العطاء الصحافي الرائد ، وعنفوان الشباب الدائم ، أود أن أقدم تحية إلى المؤسسة الإعلامية الأسترالية اللبنانية صحيفة “النهار” وأسرتها في عيدها الأربعين . تحية من القلب لمؤسسها الراحل أبو زياد ، والناشر الحالي ورئيس التحرير أنور حرب (AM) ، ورئيس مجلس الإدارة طوني خطار ، والمدير العام أحمد سليم وجميع المشاركين فيها من كتاب ومختصين وأيضا قرائها الأعزاء .
كم أود أن أسترسل في كتابة هذا المقال بإسهاب ، بعد أن أمضيت وقفة طويلة ، أتأمل في مسيرة “صحيفة النهار” الغراء ، حيث شطَحت بي التأملات تتأرجح إلى الماضي تارةً وإلى الحاضر تارةً أخرى ، ورحت أمعن النظر في شخصيات رجال الصحافة النزهاء الذين عرفتهم عن كثب – مثل المؤسس الراحل بطرس عنداري أبو زياد ، وكذلك الناشرالحالي ورئيس التحرير أنور حرب – حسب الشخصية الفائقة لكل منهما ، وبأي السمات يتميزان ، وما أنواع المشاكل والقضايا التي تعنيهما في ظل مشوار الصحافة المضني ، لنري بوضوح أن هذين الصحافيين المخضرمين في عصرنا الحالي – بلا شك – وأنهما من الطراز الأول المحترف للمهنة بكل ما تعنية الكلمة من صدق وإخلاص ونزاهة وأمانة .
لا شك أن الكثير منا يتابع بانتظام كلمة الصحافي البارز رئيس التحرير أنور حرب ، ونرى كيف في كلماته وأفكاره وأسلوبه المحترف يشارك فيها أبناء عصرنا همومهم ومشاكلهم وقضاياهم . وفي كل الأحوال ، فالمتتبع لمسيرة صحيفة ” النهار” خلال الأعوام المتتالية يستشف ، أنها كانت ومازالت تلك هي المسيرة الصادقة التي حفظت كيانها المتميز الفريد ، منذ نشأتها حتى عصرنا الحاضر ، وهناك الأمثلة كثيرة دون جدال أو برهان .
ومن منا لا يتذكر الراحل “أبو زياد” في زاويته الإنتقادية التهكمية الساخرة “كي لا ننسى” ذات المواضيع المتنوعة التي لعبت دورا فعالا في معالجة شئون الجالية ، وكيف كان له مواقف نبيلة حيث قدم خدمات هائلة للقراء والأدباء وجميع الجاليات الناطقة بالعربية دون تحيز أواستثناء بما فيهاالجالية الفلسطينية .
ولعلني أذكر في هذا السياق أن صداقتي وعلاقتي مع صحيفة ” النهار” متينة ومستمرة ، وقد بدأت عندما كنت قد اشتركت في المسابقة التي أجرتها جائزة “النهار” الأدبية لأفضل بحث يتعلق بأستراليا ، احتفالا بالعيد المئوي الأسترالي لعام 1988 ، حيث أنني فزت بالمرتبة الثانية ضمن الثلاث الفائزين ، وكان موضوع بحثي الذي اخترته عن “نضال المرأة العربية المهاجرة في أستراليا” ، وقد قامت ” النهار” فيما بعد بنشره على حلقات استغرقت ستة أسابيع متتالية . بدَأت من هناك انطلاقتي في الكتابة ، فكان لي عمود أسبوعي منتظم بعنوان ” كلمة عابرة ” ، إلى جانب جزء من العمل الصحافي استطعت خلاله مقابلة بعض الشخصيات السياسية والثقافية المرموقة . أتذكر منها تحقيقا أجريته بعنوان ” في لقاء الجالية مع عملاق القضية الفلسطينية السياسي الفلسطيني الدكتور نبيل شعث ” عام 1989 ، حيث قمت بتغطيته في صفحة كاملة ، وقد نشرَته الصحيفة دون ذكر اسم االمؤلف سهواً – أي كاتبة هذه السطور – قام ” أبو زياد ” بعدها بتقديم المعذرة عما حصل كتابيا في العدد اللاحق على غير توقع مني ، وهذا مما يدل على دماثة أخلاقه الحسنة .
كان “أبوزياد” محباً للثقافة بجميع أشكالها ، ومشجعاً على نشرها بين أبناء الجالية ، فعمل على عرض اللوحات الفنية للمبدعين خلال مناسباته الأدبية ، ولم يتردد يوما في أن يكون ضيفا متحدثا في افتتاح بعض معارضي الشخصية الفنية . أما في زاويته المشهورة “كي لا ننسى” ، فمازلت أتذكر مقاله بعنوان “راهبات عبرين” فى 10أيلول/ سبتمبر1992، وكلماته عندما كتَبَ فيها : ” … وافتقار هذه الجاليات العربية الى مركز ثقافى واحد ” ، ثم قمتُ بدورى بالتعقيب عليها فى عمودى ” كلمة عابرة ” تحت عنوان ” من أجل يقظة ثقافية ” بتاريخ 24/9/1992 ، فكتبتُ : “… إننا نريدُ أصواتا عالية مثل صوت ” أبو زياد ” لتنادى بتشييد وبناء مركز ثقافى اجتماعى ، فاذا كانت عشرات الكنائس والجوامع تقدم طعاما روحيا ، فإن بناء مركز ثقافى واحد سيقدم غذاءا فكريا وفنيا مبدعا “. ولهذا السبب تملّكني الشعور بالسعادة عندما تأسس ” المركز الثقافي الأسترالي العربي منتدى بطرس عنداري ” في عام 2013 ورئيسه الدكتور مصطفى علم الدين ، إذ تقدمتً وقتها برسم البورتريه الخاص به و بإهداء ” لوحة الوفاء ” لروحه تكريما لشخصه المبجّل ، بمناسبة مهرجان إحياء الذكرى السنوية الأولى للراحل بطرس عنداري . وذلك لأنه غرسَ الجذور المتينة الأولى التي تعتبر نبراسا قيما للجميع .
لعلني أخص بالذكر هنا الحضور البارز للشخصية المرموقة التي حملت جوهرالمشعل ، وحافظت عليه كالمنارة التي تشع بنور تواصلها الإعلامي والثقافي والإنساني ، ومازالت تعمل على استمرارية العمل الصحافي في “النهار” بكل أمانة وإخلاص ، إنها شخصية هذا الرجل الرائد بالتزامه وشجاعة قلمه وجرأته وشفافيته المتألقة في تناول قضايا المجتمع في وطن المهجر ، ألا وهوالناشر ورئيس التحرير أنور حرب !
لقد كان لي أيضا الشرف الكبير أن أرسم بورتريه أنور حرب الحاصل على لقب استحقاق وسام الملكة الرفيع (AM) عام 2014 ، حيث عرضتً رسم صورته ضمن الشخصيات الرفيعة المستوى من الفئات المختلفة التي رسمتها في معرضي الفني (كنز إلى الأبد) في غالاري آرت سبيس كونكورس بمنطقة تشاتسوود في السابع من ديسمبر 2016 . باعتباره أحد الشخصيات الفذة التي قابلتها وتعاملت معها في حياتي بطريقة مهنية فيها من الشرف والتهذيب والنزاهة ، مما يضيف رصيدا إلى جانب مظهره الوسيم ، وبهاء الوجه الذي يتحلى به ، وحيث ان جميع الوجوه التي اخترتها للمعرض هي مشرقة وتتحلى بالابتسامة ، فقد تظهر صورة أنور حرب بوجه الرجل الوقور الحسن الطلعة ذات الابتسامة العميقة الهادئة ، إذ تعبرعن قوة شخصيته الرزينة والإيجابية والتي هي في اعتقادي معروفة لدي الجميع مما يدعو الناظر إليها إلى الفخر والإعتزاز.
وبالحديث عن “النهار” ومكانتها الإعلامية ، فلا شك أنها تؤدي دورا أكثر من ذلك بكثير ، باعتبارها مركز لجميع المثقفين والمبدعين والشعراء والادباء الأستراليين العرب . واختصارا ، يجدر الإشارة هنا إلى أنه في الآونه الأخيرة ، قد شهد الوسط الصحافي الأسترالي العربي عموما حالة من النهضة والتطور تجاه المصداقية والنزاهة ، وذلك بسبب قيادات الصحف المعاصرة تمشياً مع روح التغيير واستجابة لمتطلبات المرحلة الحالية التى يشهدها المتلقي للعمل على بناء مجتمع الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية ، ونظراً للدور الهام الذى تضطلع به دور النشر والمؤسسات الصحافية في هذه المرحلة الدقيقة من عصرنا الراهن . وإني لأعتقد أن ” صحيفة النهار ” قد حققت هذا الإنجاز بالمعنى الإيجابي .
وقد يكثر النقاش في هذا العصر عن الدور الإيجابي الذي يلعبه الإعلام في الصحافة التقليدية ، خصوصا وأن الإعلام الاجتماعي مثل الفيسبوك وتويتر و ويوتيوب والمدوّنات الشخصية وغيرها يعمل على تمكين المواطن العادي من المشاركة في نشر الأخبار وتغطية الأحداث من خلال الإنترنت والهواتف الذكية والكاميرات . ومهما كان ، فما زالت الصحافة التقليدية تقدم الكثير بشكل أعمق من خلال سرد الأحداث بموضوعية ، وغالبا ما يكون لدى أصحابها الخبرة في اعتماد المعايير الصحافية الاحترافية ، وهنا يظهر الدور الهام الذى تضطلع فيه مؤسسة صحيفة ” النهار” في هذه المرحلة الراهنة التي نعيشها ، من حيث أنها تلعب دورًا هامًا في نقل مختلف الاخبار والأفكار ، كما وأنها تلعب دورا سياسيا واجتماعيا في التنويرالذهني لدى القارئ ونشر الحقائق بصدق . وإني أعتقد أن صحيفة ” النهار” تختص بإبراز دورالصحافة في ممارسة الديموقراطية الحقيقية في المجتمع الأسترالي المتعدد الثقافات ، وبما أن التقدم الرقمي في التكنولوجيا جعل معظم المواطنين صحافيين ، كل بطريقته الخاصة ، فإن الوعي على هذا الدور المهني الاحترافي الديموقراطي يزداد أهمية بالنسبة للقارئ المتلقي .
ولذلك فإن صحيفة ” النهار” تتحلى بالأمانة والمصداقية المهنية وتقدير واحترام كُتّابها والمشاركين فيها ، كما أنها تقوم بإعادة النظر ومراجعة جميع المقالات التي تستلمها قبل نشرها ، فتنقل الحقائق دون رتوش وﻻ تجميل وﻻنفاق وﻻخداع كما يفعل البعض من أجل مصالحهم الخاصة فقط ، إذ ينقلوا أخبارا ما بطريقة مخالفة للحقيقة ، وفي كل الأحوال تقع المسؤولية على عاتقهم عندما يتجاوزهؤلاءالصحافيين الحدود بإساءتهم للغير وتسببهم أضرارا تمس الفرد أو الجماعة ، وتخطى القيود الأخلاقية المجتمعية والمعاييرالمهنية المفروضة ، وآداب اللياقة وحسن السلوك المألوفة . إن مهام الصحافة النزيهة الحرة أن تكون ملتزمة وبعيدة عن التشهير وتشويه السمعة بنشر معلومات مضللة أو مغلوطة . و إني أتتطرق لهذا الموضوع الخاص بالأمانة المهنية لأنني وغيري نرفض التماشي مع موكب النفاق والمصالح الذاتية . وربما أستعيرهنا من أبي حيان التوحيدي بعض عباراته التي عبّر فيها عن شعوره بالنقد قي عصره فقال : ” إلى متى نقول بأفواهنا ما ليس في قلوبنا ؟ إلى متى ندّعي الصدق ، والكذب شعارنا ودثارنا ؟…إلى متى نستظل بشجرة تقلّص عنا ظلها ؟ إلى متى نبتلع السموم ونحن نظن أن الشفاء فيها ؟ ” وعلى هذا يمكنني القول أن القارئ ليس هو السبب لنجاح أو لعدم نجاح صحيفة ، او فشلها ، أو عدم الثقة فيها . لأن القارئ يتوقع التواصل مع الصحيفة بما يستحق ان يقرأ ، وأن تكون الموضوعية في الجوهر وليست خبيثة أو محرّضة أو متحيّزة لجهة أو أخرى ، حتى يمكنها أن تورد الصدق في توصيل المواد الصحيحة وفي أداء مهنتها بأمانة . إن وسيلة الإعلام الحقيقية ليست ملكاً لأصحابها بل لقرائها . وحرية الصحافة لا بد وان تكون متوافرة دائما ، وإن نزاهة الصحيفة ومصداقية العاملين فيها هي أساس الصحافة الحقيقية للمهنة ، وهذا ما ينطبق تماما على ” صحيفة النهار” الغراء وموظفيها منذ إنشائها حتى يومنا هذا . فهنيئا لجميع العاملين في صحيفة “النهار” وأسرتها لأنها تستحق التكريم ، خصوصا تكريم المؤسس الراحل “أبو زياد” ، ورئيس التحرير الناشر الحالي “أنور حرب” بمناسبة عيد تأسيسها الاربعين .
وفى الختام لا يسعني إلا أن أهنئ “النهار” بلوغ عقدها الرابع ، مبروك عيدها ألأربعين مع أخلص تمنياتي لهذه المؤسسة الإعلامية والثقافية والإنسانية بالتوفيق المستمر ، فالجميع يعترف بجهودها ، ومدى المحبة المتبادلة بين الصحيفة والقراء ، فهنيئاً للجميع في ظل “النهار” ذات الشباب الدائم .