OAM بقلم مارسيل منصور
(ذكريات فلسطينية) تذكرّالعالم بأن الذاكرة الفلسطينية لم ولن تمت، بل لا تزال حية تلحّ على ضمائر العالم وأصدقاء الحرية والعدالة بذكريات الألم والقهر والتشريد والهجرة والشتات والاستيطان اللاشرعي واغتصاب أرض الوطن، وأن هذا الشعور بالإلحاح المستمر يشكل عنصرا أساسيا في تذكيرالعالم، وفي طرح الذاكرة الدائم، وإحياء الذاكرة رغم الاغتراب، والتمسك بها، والإحتفاظ بها. هذه الذكريات كم هي مريرة يعتصرها الألم! لكنها آتية من القلب، كنداءات النجدة من أجل الإنقاذ وتذكير ضميرالعالم لأن يعيد إلى فلسطين نبضا جديدا، يخفق بالحرية والعدالة والحياة.
استضاف مسرح أوربان مساء الاربعاء الموافق١٣ سبتمبر٢٠١٧، بالتعاون مع استوديو المسرح العربي في مركز بانكستاون للفنون سيدني، عرضاً مسرحياً بعنوان (ذكريات فلسطينية) والتي تروي قصصاً لسيدات فلسطينيات هاجرن إلى أستراليا واستقرين في مدينة بريزبين في ولاية كوينزلاند. حضره البرفيسورأحمد الشبول وعقيلته، والبرفيسور ستيوارت ريس المديرالسابق لمركز دراسات السلام وفض النزاعات في جامعة سيدني، ومن مكتب البعثة العامة الفلسطينية (سفارة فلسطين) في كانبرا- السكرتيرالأول/ نورا صالح وجما ل النابلسي مدير البرنامج، وفعاليات من أبناء الجالية وحشد من الجمهور المتنوع.
مسرحية (ذكريات فلسطينية) تحكي لنا قصص أربع سيدات فلسطينيات تنقلّن في بلاد متعددة ثم حطت بهن الاقدار في الهجرة إلى القارة الأسترالية بعد أن أراد الاحتلال أن يميت اسم فلسطين. لكن هؤلاء السيدات رغم تفاوت أعمارهن واختلاف مكان ميلادهن، حملن حقائبهن وزرعن فيها اسم فلسطين حرفا حرفا، لتذكّر العالم وتعلن على الملا ذات الضميرالإنساني الحي، بأن قضية “الحرية” لا يمكن أن تتحول إلى ركام من النسيان ولأن ذكرى الوطن لا بد وأن ينمو ويكبرمع الزمن.
تدور فكرة المسرحية حول قصص واقعية عن هؤلاء السيدات اللواتي جئن من فئات وبلاد وأعمار مختلفة، هاجرن إلى أستراليا وحملن معهن حقائب الذاكرة بما فيها الحقائق الواقعية عن مشوارهن ورحلاتهن في بلاد المهجر بشكل عام، وكيف استطعن أن يتكيفن في المجتمع الأسترالي الجديد لديهن والمختلف عنهن، والتحديات التي واجهتهن، وكيف استقرين وأنشأن عائلاتهن وحاولن الحفاظ على تراثهن الفلسطيني خاصة والعربي بوجه عام.
تصنّف مسرحية “ذكريات فلسطينية” ضمن فئة “مشروع المسرح المجتمعي الحرفي المعاصر”، من إخراج الشابة عاليا منصور بدعم من مجلس الفنون الأسترالي، وهي اللبنانية الأصل والحاصلة على بكالوريوس في المسرح والدراما والفن الرفيع، والتي قامت بإجراء مقابلات مع أربع سيدات مهاجرات من أصول فلسطينية، بعضهن عاشت في الأردن في مخيم اللاجئين قبل الهجرة إلى أستراليا، وأخريات إما ولدت في الكويت أوغزة أو منطقة الخليج أوغيرها. وقام بالأداء المسرحي أربعة شابات أستراليات من أصول شرق أوسطية (نور، وسارة، وكولي، وروجا)، هؤلاء قمن بتمثيل أدوار السيدات الفلسطينيات المهاجرات. نرى (سارة) حديثة العهد في أستراليا، تحكي قصة “خلود” البالغة في السبعينات من عمرها والتي جاءت إلى أستراليا في بداية الثلاثينات، و(كولي) كان عمرها سنتين، و(روجا) المولودة في أستراليا، وكل من هؤلاء الفتيات تروي قصة الاستقرار والتأقلم من زاوية مختلفة، مع ملاحظة أن الفتاة (روجا) إيرانية الأصل ولكنها تساند القضية الفلسطينية وتدافع عنها. أما (نور) جاءت وعمرها ست سنوات وتحكي قصة (صفية) التي تنقلت في طفولتها من فلسطين إلى الخليج ثم الى سورية ومنها إلى بريزبين، وأحضرت معها التليفزيون من أبو ظبي، ولما شاهدت مسلسل الكارتون بالإنجليرية بدلا من العربية شعرت بالصدمة تجتاح كيانها.
كما تسرد قصص المسرحية نجاحات بعض من تحملّن آلام المعاناة في بداية الهجرة لافتفاراللغة الانجليزية، وبقوة الإصرار والعزم حصلت على الليسانس في القانون من كلية الحقوق، وأخرى عملت على إتاحة الفرص لأبنائها زيارة البلد الأم لعدة مرات من أجل اكتساب المعرفة، حيث رأوا معاناة الشعب الفلسطيني تحت وطأة الإحتلال الإسرائيلي، والخضوع للقيود المفروضة على الوصول في نقاط التفتيش، والحصارالعسكري الإسرائيلي، وتشريد آلاف الفلسطينيين، وهدم المنازل الفلسطينية وبناء المستوطنات. هؤلاء شاهدوا آثارالحرب والبؤس واللجوء بأعينيهم، فأصبح حب الوطن مزروعا في قلوبهم، كما وتعرّفواعلى التراث الفلسطيني الأصيل من خلال الاكلات الفلسطينية والعربية والدبكة والأغاني الجميلة. ومهما كان، فقد تناولت المسرحية ذكريات مؤلمة لرحيلهن من القرى والمدن التي تهجرن منها خلال الستينات والثمانينات، وفي نفس الوقت كيف حاولن أن يتناسوها ويتأقلمن ويمارسن أعمالهن المختلفة، ويتقدمن في حياتهن بنجاح كجزء لايتجزأ من المجتمع الأسترالي .
إن روح القضية الفلسطينية تنعكس على كل فلسطيني أينما وجد في أي بقعة من العالم، وعلى كل مواطن أسترالي من أصل فلسطيني أكثر من أي زمن مضى، حتي أصبحنا اليوم نلمس ذلك ونحسه في وسائل الإعلام، وفي الشارع، وفي إنتاج الفن المعاصر. والكلّ يعمل جاهدا من أجل أن تكون القضية حديث الشعب وموضع عنايته. كما وأن لجان الدفاع عن فلسطين أصبحت تؤلّف في أسترليا وفي الخارج، ويحاول الجميع أن يلفت أنظارالحكومة الأسترالية بأن تولي القضية الفلسطينية جانبا كبيرا من اهتمامها. والجميع يعملون جاهدين ليذكرّوا العالم بأن لهم وطنا محتلا اسمه فلسطين، وأن دولة إسرائيل أنشئت على حساب أرض فلسطين.
منذ عهد الكنعانيين (أجداد الفلسطينيين) والفلسطينيون يهاجرون إلى بلاد أوروبا وأستراليا وحول العالم. ومنذ فجر التاريخ للهجرة وهم يحملون قصصهم وسبب هجرتهم الإختيارية منها والإجبارية، وكلها تروي التاريخ الحضاري العريق، و ظروف الحرب وعذاب الاحتلال. رغم مرور سبعين عاما علي هجرة النكبة مايو/ أيارعام ١٩٤٨، عند إقامة دولة إسرائيل على أنقاض المجتمع الفلسطيني، وخمسين عاما على حرب النكسة حزيران/ يونيوعام ١٩٦٧، والتي احتلت فيها إسرائيل غزة والضفة الغربية بمافيها مدينة القدس، إلا أن الظروف الراهنة لما جري ويجري على الساحة ما تزال تتربع في ذاكرة المرأة الفلسطينية أينما وجدت.
ولعل الجمهورلم يندهش بأن هؤلاء الفلسطينيات اليوم مازلن يحملن ذكرى وذاكرة، وبأنهن يتذكرن وطنهن فلسطين الذي ضاع، ويتعلقن به وبجذورهن، حتى أن هؤلاء الأجيال الذين ولدوا بعد ضياع الوطن استطاعوا أن يكتسبوا المعرفة من آبائهم وأجدادهم وأن يتعرفواعلى أرضهم وعلى معنى الإنتماء لوطنهم و يتعلقوا به، وبالتالي يتوقون إلى حق العودة المشروعة إليه.
إن حكاوي هذه المسرحية ليست مجرد كلام منقول أوملقن، وإنما هي صرخة ضمير دقيق لحقيقة مفهوم قضية الأرض والوطن والواقع وسط معايشة الإحتلال. وفي كل الاحوال فإن هذه القصص الواقعية تحكي خبرات ومعانات الأجيال المعاصرة، وكلها تسلط الضوءعلى توصيل رسالة هامة، ليست مقصورة على الفلسطينيين فقط أوجالية معينة، وإنما تشمل المجتمعات الإنسانية ككل. ولذلك، فمن بالغ الأهمية أن يصدح في يومنا هذا صوت فلسطيني ليواجه الواقع ويوقظ العالم عن مأساة وحقوق القضية الفلسطينيه.
كان عرض المسرحية جميلا وسط الجمهورالحاشد، تخلله أغنية تراثية بصوت الفنانة مايسة علم الدين على أنغام عازف العود الفنان عدنان براكي، تلاه تعليم الدبكة للجمهور حيث شجع على اختلاطهم في نهاية المسرحية ثم ضيافة المأكولات الفلسطينية والحلويات وفنجان القهوة وسط أجواء رائعة وحميمة .
هنيئا لهؤلاء الفتيات الأستراليات الفلسطينيات من الجيل الصاعدعلى الأداء الرائع، وللمخرجة عالييا منصور وكذلك إليسار الشدياق، وتحية حارة لكلّ من حضر وشارك وكلّ من ساهم في دعم وإنجاح هذا العمل الفني.