فؤاد نعمان الخوري حارس جمرة الوعي والحريّهْ

 

  

فؤاد نعمان الخوري

حارس جمرة الوعي والحريّهْ

OAM مارسيل منصور

فؤاد نعمان الخوري ، كما عرفناه شاعر رقيق المشاعر مملوء حباً لله وللوطن وللناس ، وقد صدر له قبل ذلك اثنا عشر ديوانا شعريا بالعاميّة اللبنانية منذ العام 1983، كان من بينها ” ندراللهفة “ في عام 2014 ، ولعلني أذكر بعض ما كتبته عن ذلك العمل الخلّاق: ”… شعر فؤاد نعمان الخوري له مضمون حيوى ، ووقع فى المشاعر ينتقل من روح الى روح ، تجعلنا نحس جميعا أن عباراته هى خيوط صوتية تتأرجح فى مشاعرنا وقلوبنا … فنحن جميعا فى الهمّ شركاء ، هذا مما يجعل الشاعرأوالأديب أوالفنان العربى شاعرا للجميع . لذلك فان قلب فؤاد الشاعرالنابض هو فؤاد الجميع . “

هذا بعض ما كتبته سابقا ، وتراني اليوم أقف في حيرة لشدة إعجابي بهذا الديوان الجديد لشاعرنا فؤاد نعمان الخوري بعنوان «يا حارسُ الجمرة ” فماذا أقول ؟

يعتبر فؤاد من جماعة الشعراء ذوي القدوة الحسنة ، شاعر أسترالي لبناني مبدع من الطرازالأول ، كتب للإنسانية باللهجة اللبنانية العامية قصائد جميلة محكية ، وغرس بصماته في هذا المجال كأبرز شعراء العامية الذين تأثر بهم ، مثل سعيد عقل ، وموريس عواد ، ويونس الإبن ، والرحباني . ولغة الشاعر فؤاد ، سلسلة حافلة بالمعاني العميقة ، لها ملامح جمالية مميزة ، من خلالها يجسّد القيم التي يؤمن بها كإنسان وشاعر، ليعبّرعن صوت الناس ويحاكي ألامهم وآمالهم . ولأن الشعر بالنسبة له لغة يومية وممارسة حياتية فنراه كتب الشعروغنّاه في المناسبات المختلفة ، كتب للإنسان ، وللوطن لبنان ، وللقدس ، حتى لأصدقائه وأفراد عائلته نصيب كبير من قصائده .

ولأن الشاعر شخص محبّ فنراه قدم إهداء الديوان الشعري إلى روح الأحبة الذين رحلوا ، فيقول :

« لكلّ الأحبّه لْ غابوا

يا مَوت ما بتكنّْ؟
ما بتتعب من اللمّْ؟

يمكن كنت بتحنّْ

لو كان عندَك امّْ!

فالشاعر خص الإهداء إلى كل الأحبة الأعزاء على قلبه ، فأفصح عن مشاعره الممتزجة بمسحة الحنان والحنين ، وليس هناك حنان يفوق حنان الأم لأنه دفء الجمرة التي تحنّ وتدفّئ ولا تنطفئ ، بل هو ينبوع الدفء الذي يكتنف الروح . والحنين إلى الذين غابوا يدوم ولا يزول ، فهم في داخلنا يعيشون … رحلوا عنا ولم يرحلوا منا .

وفي عنوان الكتاب” يا حارس الجمره “: قد يتساءل البعض ، أي نوع من الجمرة هذه ؟ ومن هو حارس الجمرة ؟

ربما تكون جمرة الحب هي أول مايخطرعلى ذهن الإنسان أي حب العاشق الولهان ، والتي طالما تغنّى بها الشعراء والأحبّة والعشاق ، أو رسمتها ريشتة فنان ، وربما غير هذا وذاك .

إن شاعرنا المخضرم شاعرالوطن فؤاد نعمان الخوري يسميها “جمرة الحرية” تارة ، و “جمرة وعي” تارة أخرى … ونحن حراسها … لأن في قلوبنا جميعا جمرة من شعلة النيران المستعرة من “الوعي” المتيقظ … هي الجمرة التي تجعلنا نتوق ونتحرق شوقا إلى “الحرية “.

إن المبدع بطبعه يلتمس الطريق إلى قيم جديدة خصوصا إذا أراد أن يعبّرعن قلقه حاملا شتى الهموم ، فيخلق معايير جديدة لسلوك مجتمعه ،  وبالمعيار “الموضوعي” ، اختار فؤاد هذه القصيدة الرائعة لأن تكون عنوان كتابه ، حيث نظمها على منوال يتوافق مع صورة الغلاف . صورة هذه الجمرة الضوئية التي رسمتها بالنور من ضمن أعمالي الضوئية بعنوان “إكتشف قوة الوعي الفائق” ، وعندما رأيت النورفي الوعي يدور ويتحرك ويتغير بألوان النيران المتوهجة ، وقفت حائرة … ماذا أطلق على هذا العمل الفني الذي أراه آخذا في الصعود والعلو؟ فسميته “السمو” ! “إليفيشين” . وكم كان مشرفا أن تظهر واحدة من أعمالي الضوئية على غلاف كتاب فؤاد ! وإنّ وصف الشاعرالدقيق لها يدلّ على تشابه الأفكار وتوارد الخواطر بين المبدعين ، بما يسمى بالإنجليزية “تيليباثي”، وإنما يدل على مدى تعاونهم وتفاعلهم المتبادل من أجل نهضة فكرية وفنية ، أومايسمي بالإنجليزية “رينيساىس” . ولهذا رأيت أن أركز في هذه المناسبة على زاوية واحدة لأوفيها حقها في هذا العمل الإبداعي ألا وهي الجمرة !

بالحديث عن قصيدة “يا حارسُ الجمرة” ،  ص 35 و ص 36 ، وهي عنوان الكتاب نفسه ، وصورة الغلاف ، يتراءى لي في مكنونها أن أجمل مافيها ليس فقط معانيها ، وإنما أن منحها الشاعر صفة “جمرة الحريّه” مرة ، و “جمرة وعي” مرة أخرى ، فجاء موفّقا للغاية في وصفه ، حيث يخيل للرائي أن لهيب هذه الجذوة المكوّن من قبسة ألسنة النار تشبه الأصابع وكأنها كف إنسان تارة ، أوأنها تشبه القربان ينبثق من دائرة العالم تارة أخرى . هكذا وصفها الشاعر الخوري ، إذ استعمل في شعره الألفاظ المناسبة جدا مثل كلمة “كف”، و”أصابع” و”قربان” ؟ و”وعي” و”غضب” “وحرية ” ، فيقول في الحرية :

هيّي إنت، يمّا انت هيّي:

متلَك عا وسع العتم مضويّهْ…

ولمّا الولاد بيسألُوعا الإسمْ،

سمّيتهَا جمرة الحريّهْ!”

ومهما كان قصد الشاعر في جمرة الحرية بأنواعها ، فهناك بين جمرة لهب النار والحرية روابط صلة عميقة وقديمة الأزل ، هذه الشعلة النارية التي تصنعها الشعوب المغلوبة على أمرها غالبا ما ترمز إلى الحرية ، فتأخد من شعلتها قبسا لإعلان صرخة الاحتجاج التي يحملها الفرد رمزا للتضحية من أجل الوطن وكأنه يقدم نفسه قربانا ، من أجل الحرية والكرامة والمجد .

وفي ( سفر المزامير 29: 7): “صَوْتُ الرَّبِّ يَقْدَحُ لُهُبَ نَارٍ”، تلك أنشودة كان يعزفها النبيّ داود ويسبّح تحت كل الظروف ، لأنها علامة مجد وعظمة وحب في قوة الله .

يقول الشاعر: في رؤيتة للجمرة بأنها تشبه الكف: ص 35

يا حارس الجمره لا تتركها،

كفّ المدى بكفَّك مباركها..

حرِّك الكفّ وسلّم وعلّم،

لكن الجمره لا تحرّكها!

وكذلك يرى فيها أن أصابع الكف تتحكم بشعلة الجمرة ، فيقول

 وخلّي لهَب صابيعَك الحمرَا

يحرُق الماضي ويرسُم الجايي!

وهنا يؤكد العلاقة بين الجمرة وقدرات الإنسان على الإدراك الحسي والفكري ، لأن وعي الإنسان مثل حمل جمرة من النار، فهي إما أن تنيرالطريق وإما تحرق .

أما عن “جمرة الوعي” في قول الشاعر:

“جمرة وعي، جمرة أمل مخنوقْ،”

جمرة غضب ها الشعب المْسالِمْ؛”

إنما تدل على الأثر ألأدبي الرفيع الذي يعتبر بمثابة وثيقة يعبّرفيها الشاعرعن حقيقة مشاعره التي تعتمل في خلجات نفسه ، من حيث ارتباط الخواطر في مخزن الوعي أو صلتها في اللاوعي ، فيرتدي أغوار نفسه في الأعماق ليصل إلى المخزون في مصدرالوعي ليكشف عن المستتر منها ، ويلقي الضوء على الأوضاع الاجتماعية والسياسية السائدة لشعب مسالم ، ولكنه مخنوق الأمل ، حانق ساخط وغاضب . إذن هي جمرة وعي من السخط والغضب ، فالشاعرهنا تبرع مهارته في إبداعه اللفظي عن المكتوم في تعبيره بأنها جمرة من النيران ، تتوهج وتستعرغضبا لتحرق ولتلتهم ما يحيط بها . لقد استعمل الشاعرالعبارة الدقيقة التي تتناسب مع الحالة النفسية الكامنة بين جوارحه ، فأخرجها مزيجا من الأمل والبؤس ، مما يدل على أن الشاعر فؤاد هو شاعر نافذ البصيرة لأنه يرينا حقيقة انفعالاتنا العميقة ، وإدراك تجاربنا المفروضة علينا بحكم الحياة التكنولوجية والسيكولوجية المعاصرة التي تملأ نفوسنا هموما لا بد من ارتيادها وتحويلها إلى فنون ، أو صياغة شعر كما في أشعار فؤاد ، ولا غرابة في ذلك إذا عرفنا أنه يعمل في مجال الخدمات الاجتماعية لسنوات طويلة ، ويتفاعل مع الناس عن كثب مما يضيف إلى شعره ثراء . هكذا يعيننا الفن والأدب على إدراك أنفسنا ، وقصيدة ” يا حارس الجمرة” هي مثال حيّ على ذلك .

وعندما ينطفئ الجمر في قصيدة “تانغُو” ، يحزن الشاعرعلى حاله وكأنه يموت في الحياة ، فيقول ص15

كيف انطفى هاك الجمرْ،

شو بعمل بباقي العمرْ؟

و إذا انطفأ نصف الجمر ، فلا يدّفء البردان . كما في قصيدة خواطر “سورانتو” ص 55 :

ونص الشمس ونصّ الجمرْ

ما قدروُا دفّوُا البردانْ!

فالشاعر يرى أن حارس الجمرة هو موقد النار وقاطنها وحاميها ، والحارس الأمين الذي يحافظ على شعلتها كاملة ، لا تنطفئ ولا تفتر ، ثم يصرّح بأن ( حرّاس الجمر) أوفياء يحفظون الوعد ولا يخلّوا به :

”يا حارس الجمره، اذا فلُّوا

أهل الجمر،عا الوعد بيضلُّوا:

وحلمن يشوفوا جمرتك قنديل

والنور يجتاح الشرق كلو“

ولذلك يطلب الشاعر وعدا من البشر بأن يكونوا حرّاسا أوفياء ، يحافظوا على اشتعال الجمرة ، لأن تصبح قنديلا ينيرالشرق ، وأن تظل قصيدته مرآة لنارها فيوصي: ص 36

“ووعدي إلَك يا حارس الجمرهْ
تبقى القصيده لنارَك مرايِهْ؛”

ولأن النار المتأججة عندما تغضب تأكل وتحرق ، فالشاعر يتحكم في لهب أصابعه ” فيختم القصيدة بالقول:

“وخلّي لهَب صابيعَك الحمرَا

يحرُق الماضي ويرسُم الجايي!”

وفي الختام ، جمرة النار في مغزاها، ترمز إلى”السمو” لأنها في عظمتها تصعد إلى العلو ، ولكنها عندما تغضب تحرق ، وعندما تحرق تأكل الأخضر واليابس . وإذا لم تحرق فهي تدفئ ، ونورها يسطع علينا ليبدّد العتمة وليضيئ لنا مسيرة الدرب .

كم هو جميل أن نوقد الجمرة ، أن نحرسها ، حتى تدفئ قلوبنا ، وتبتهج نفوسنا بالنور، وتسمو أرواحنا إلى العلو . هذا مايهدف إليه الشاعرفؤاد أن نحرق كل ما هو سيئ ، ونبقي على الدفء الذي يسطع علينا بوهج الجمرة المتألق . ومهما كان من تساؤل عن من هوحارس الجمره يا ترى ؟ ربما يظن البعض أنه الله هو الحارس الحقيقي أوغيرذلك .  وفي النهاية حارس الجمرة هو فؤاد ، هو الشاعر ، هو الفنان ، هو الإنسان ، هو أنت ، هو أنت ، هو نحن جميعا . لعلنا نعمل على أن نحرس الجمرة سويا لألّا  تنطفئ أو تخبو، بل نحافظ على لهيبها لأن يظل مشتعلا في عمق فؤادنا ، حتى تظل لوحة الفنان ، وقصيدة الشاعر فؤاد مرآة “وعي” متيقظ لدينا، من أجل أن ترى عيوننا “الحرية” .