لا بد أنها الجنة…كوميديا ساخرة للمخرج إيليّا سليمان…وضع فيها السينما الفلسطينية على خريطة العالم في مهرجان “كان” الفرنسي

 

 

  

لا بد أنها الجنة…كوميديا ساخرة للمخرج إيليّا سليمان

  وضع فيها السينما الفلسطينية على خريطة العالم في مهرجان “كان” الفرنسي

OAM مارسيل منصور

إيليّا سليمان أحد أهم رواد السينما الفلسطينية والعالم العربي، ومخرج فيلم «لا بد أنها الجنة»…هو فلسطينيّ…فكراً، وروحاً، وإبداعاّ…يحمل وطنه في أعماقه أينما ذهب، ويُخرج فنه من نبض عروقه وأحاسيسه وواقع شعبه. استطاع سليمان أن يضع الفن السينمائي الإبداعي في قالب الكوميديا السوداء التي تحمل في طياتها الألم وتشعل انبثاق الأمل، فحوّل الفن السينمائي من سوداوي إلى ربيع اخضراري، بأسلوب الصمت الفكاهي الساخر ليعطي ثمارا يانعة في عالم المواهب والإبداع. إيليّا سليمان من أبناء الناصرة الذين بقوا في أرضهم فلسطين حين شُرد مئات الآلاف من شعبها وإقامة دولة إسرائيل عام ١٩٤٨. تنقّل في رحلة الهجرة بين مدينته الناصرة والمدن الأوربية بحثاً عن الهوية والجنسية والمنفى ووجود الذات، فوضع السينما الفلسطينية على خريطة العالم. إنه من هؤلاء الفلسطينيين الذين لا يمكن أن تقهرهم ظروف الحرب والاحتلال، لأنهم يحملون في خفقات قلوبهم أمل الحرية والعودة، ولأنهم أثرياء المواهب ومتعمقي الجذور في أرض الوطن مهما بعدت المسافات وطالت الأزمان.

أطلق «مهرجان الفيلم الفلسطيني أستراليا» دورته العاشرة، مساء الخميس، متجولاً في خمس ولايات أسترالية من ٢٤ أكتوبر إلى ١٠ نوفمبر٢٠١٩. وتُقام عروض الأفلام المتنوعة على شاشات السينما الأسترالية حيث تجذب حشداً من المشاهدين والداعمين للمهرجان من مختلف الجاليات. وجزيل الشكر للقائمين على تنظيمه وإشرافه السيد ناصر شختور وعقيلته السيدة مايا زهرا لما يبذلان من جهد في سبيل التأثير الثقافي والاجتماعي، وتعزيز الفنون الفلسطينية في سياق أسترالي متعدد الثقافات. بدأ الافتتاح في اليوم الرابع والعشرين من أكتوبر في سينما دندي أوبرا كيز، سيدني، وقدم كلمات الافتتاحية كلٌ من الكاتبة الروائية رندة عبد الفتاح، والمحامي البارز بريت ووكر.

فيلم «لا بد أنها الجنة» للمخرج الفلسطيني إيليا سليمان، هو أحد الأفلام الذي يعرضها المهرجان، والذي حاز على جائزة السعفة الذهبية العالمية من الاتحاد الدولي لنقاد السينما على أفضل فيلم في مسابقة الدورة الثانية والسبعين ٢٠١٩ من مهرجان «كان» الفرنسي العريق، كما وتسلم تنويهاً خاصاً من لجنة التحكيم من يد الممثلة الفرنسية كيارا ماستروياني، في ختام المهرجان.

بدأ سليمان المقيم في العاصمة الفرنسية باريس، في إخراج الأفلام في نيويورك حيث عاش بين العامين ١٩٨١ و١٩٩٣. علّم نفسه بنفسه وكان معظم الممثلين في العمل غير محترفين بمن فيهم والديه وأصحابه، وطوّر نفسه حتى أصبح مخرجاً رائداً. وفي فيلم «لا بد أنها الجنة»، طوّع الفن المعاصر للسينما الفلسطينية، وألبس أعماله رداء الكوميديا الساخرة باحثاً عن الهوية الفلسطينية الضائعة من أجل توثيق وجودها وإثبات وجود نفسه. اعتمد أسلوب الصمت والتأمل المطعّم بروح الفكاهة التي تخفي في طياتها مرارة الألم والكآبة، ومزيج من الواقعية والخيال المبتكر.

تدور أحداث الفيلم حول رجل فلسطيني (سليمان) يترك بلاده المحتلة، يسافر إلى مدن أخرى مثل باريس ونيويورك من أجل حياة أفضل، لكنه يجد فيها وجه التشابه بينها وبين وطنه. حتى أنه يرى فلسطين تتبعه كظله، وتصاحبه أينما ذهب وكأنه مسكون بالهوية الفلسطينية. مما جعل العالم في نظره يشبه قطعة مصغرة من فلسطين، فصوّر الفيلم مجتمعاً فلسطينياً يعاني من العنف تحت الاحتلال. وإن كان ذلك غير واضح بشكل مباشر، وذلك لأنه اعتمد فكرة «التأمل» الخالي من الكلام حتى يتيح للمشاهدين فرصة الملاحظة والتفكير. وهذا النوع من الفن المعاصر يذكّرني بفكرة الفن الضوئي الذي أنجزتُه عام ٢٠١٣ بعنوان «ثريشهولد»، حيث اعتمدتُ فكرة «التأمل» في النور والإدراك ودعوتُ المشاهد لأن يطلق العنان لذاته بأن يلاحظ ويفكر، حتى يستنتج المعاني بنفسه مكونا رأيه الخاص.

ففي فيلم «لا بد أنها الجنة» تبدو بعض المشاهد واضحة تماما، وبعضها غامضة نوعاً وربما يصعب تفسيرها أحياناً مما يزيدها سحراً، وذلك لأن المخرج السينمائي والممثل إيليا سليمان استخدم وجهه وجسمه للتعبير عن روح فلسطين في أفلامه – وهو المتواجد في جميع المشاهد – لم يتفوه إلا بجملتين من أربع كلمات في آخر الفيلم حين تحاور مع سائق السيارة أثناء الرجوع إلى بيته، فعندما سأله السائق من «أين أنت؟» أجاب إيليا قائلا: «من الناصرة»، و «أنا فلسطيني». فدهِش السائق لهول ما يعرف أنه من بلد عرفات ومن مدينه المسيح له المجد!…إن التزام سليمان بالصمت طيلة الفيلم قد أتاح للمشاهدين فرص التأمل والتفكير لاستنتاج المعاني والهدف بأسلوب ساخر.  هناك بعض الكلمات القليلة في الفيلم التي كان لها أثر على أسماع المشاهدين. ففي إحدى الحانات في الناصرة قال أحد الموجودين للممثل سليمان: «الجميع يتناول الكحول من أجل أن ينسى، أما أنتم الفلسطينيون تتناولون الكحول من أجل أن تتذكروا.» هذه العبارة في قوة معانيها إنما تدل على المغزى الجوهري الذي يبغي أن يوصله المخرج سليمان، ألا وهو تذكّر الوطن الذي يرافقه دوما ولا يفارقه أبداً.

في فيلمه السينمائي، يلعب سليمان دور البطولة – دور ذاته – وهو مخرج فلسطيني يعمل على السعي إلى تمويل فيلمه السينمائي الجديد، في صورٍ ولوحاتٍ كوميدية متحركة تجنح إلى التهكم والسخرية بأسلوب معاصر يميل إلى المزيج بين السريالية والرمزية. فهو يستكشف فيها العالم عبر ملاحظاته الدقيقة، وعلامات التعجب في عينيه المحدقتين تعبّر عن الدهشة المصحوبة بألم الغربة والمنفى والبحث عن الهوية والوطن. فهو يبحث عن الجنة المفقودة ولا يجدها. لذلك تراه يدرك مدى التناقض في السلوك الإنساني والاجتماعي والعالمي، حتى أنّ الطبيعية الحياتية غالبا ما تكون سخيفة: كنيسة الناصرة بابها لا يفتح، وباريس الصاخبة خالية من الناس، والسوبر ماركت في نيويورك مكدس بكمّ من الأسلحة يفوق المنتجات الطازجة. وكأن العالم كله قد تحول إلى دولة بوليسية عملاقة، وشبكة ضخمة من نقاط التفتيش، والمواطنون المسلحون يتطلعون إلى بعضهم البعض بشكل مثير للريبة حيث الفزع موجود في كل مكان دون انقطاع. وهنا تظهر موهبة سليمان في قدرته على نقل هذا الشعور بالقلق والتوتر وعدم الارتياح بنكهة تهكمية ساخرة. حتى أنه يبدو مستهدفاً ومطاردا في كل أرض جديدة يرحل إليها، فيعبّر في قسمات وجهه البائسة عن ضياع الشعب الفلسطيني ومأساته ومعاناته وقمعه بالقوة ليس فقط في أرضه المحتلة، وإنما في هويته المفقودة في أرجاء الدنيا.

 كان المشهد الافتتاحي في الناصرة كفيلاً بأن يضع المشاهدين في أجواء من المرح والفكاهة وإن كان يخفي شعوراً بالمرارة والأسى، فالكاهن الأرثوذكسي يردد ترانيم عيد الفصح أثناء ممارسة طقوس عيد القيامة وهو يقود موكب المؤمنين نحو باب الهيكل الحديدي المغلق، مفترضا أنه سيفتح عند قيادته. لكن مساعده المختبئ في الداخل لم يكن مستجيباً – وكأنه لا حياة لمن تنادي – مما جعل الكاهن يذهب غاضباً إلى الجانب الخلفي ليصفعه. وفي اعتقادي أن القرع على الباب الحديدي المغلق في الفيلم، والمناداة بفتحه، وإهمال مساعد الكاهن، قد جاءت جميعها ليس فقط تعبيراً عن التراث الفلسطيني المسيحي الأرثوذكسي، وانعكاسا لجذور المخرج، وإنما هي أساساً استعارات وتشابيه ورموز فنيّة هادفة للوطن. وكلها تشير إلى القرع على قلوب البشر المغلقة، وآذان العالم الصمّاء تجاه واقع القضية الفلسطينية، والهوية الضائعة، واليأس في وضع الحلول لطريق مسدود. وعندما يفتح الباب وتضيئ الأنوار قد يعني انبثاق الأمل لتبديد ظلمة الاحتلال وانتصار الحق والحرية، تمامًا مثل انبثاق النور في القيامة والانتصار على الموت.

وفي مشهد آخر يظهر الممثل إيلياّ عاطلاً عن العمل، يلملم بقايا ملابس وكرسي متحرك لوالدته العجوز التي فارقت الحياة، ليعطيها للمحتاجين. يبدو حينها أكبر عمرًا بنظارته الثقيلة ولحيته الرمادية وقبعة القش. وفي عيونه الحزينة التي تراقب من شبابيك بيته – يرى جيرانه الأكثر غرابة، فقد استولى أحدهم على أشجار الليمون في فناء منزله الذي يعيش فيه، بينما جارٌ آخرً يظهر في سن الشيخوخة مترهلا معتوها. الجيران يتسكعون ليلاً ويشتمون، والمواجهات الضارية مع البلطجية الإسرائيليين في الحانة المحلية غير مبالية بشيء، وأحد السكان المجانين يتجول في الشوارع معلنا الهراء.  لم يكن هناك أي وجوه نسائية سوى رؤية أقدام فلاحة فلسطينية حسناء، تظهر بعدها تحمل قِدراً ثقيلاً على رأسها وتمشي بين أشجار الزيتون الخضراء ذهاباً وإياباً، ينظر إليها إيليا مراراً متأملاً من بعيد فقط.  أما في مشهد العصابات المسلحة فكانت تجوب بمضارب كرة البيسبول، ورجال الشرطة تتجول في الشوارع بشكل كثيف ومخيف. ولما كان سليمان يقود سيارته عائداً إلى المنزل تواكب مع سيارة شرطة يتبادل رجالها النظارات الشمسية، وفيها فتاة تجلس حزينة معصوبة العينين في المقعد الخلفي مما أثار الوجوم والقلق في عينيه وتعابير وجهه.

 لذلك – وسط تلك الأجواء الغريبة المريبة – يحملق سليمان في كل من هذه الأحداث متأملا، وعندما تتضخم الموسيقى، يحزّم حقائبه ويأخذ طائرة إلى باريس ويرحل. وفجأةً تتغير الموسيقى والأغاني العربية التقليدية إلى الأنغام الفرنسية. فينتقل المشهد إلى شوارع باريس الصاخبة والمثيرة، حيث يحدق سليمان هناك بجمال المرأة واحدة تلو الأخرى، ويتأمل بنساء المدينة اللواتي يتمتعن بهالة من الجاذبية والجمال. تتكرر المناظر في ذلك المشهد مرارا وكأنها عروض أزياء باريس الشهيرة. وفي اليوم التالي، تصبح المدينة خالية من الناس بشكل مخيف. ترتفع كاتدرائية نوتردام التي لا تزال قائمة على أسطح المنازل؛ ينتشر المقاتلون، وتمرّ الدبابات بقوة أمام بنك فرنسا. وفي مشهد فكاهي آخر يرى سليمان ثلاثة من ضباط الشرطة على الدراجات البخارية الكهربائية يتفقدون سيارة متوقفة. كما يلاحظ ضباط الشرطة على الطرق البحرية، ويراقب رجلًا بلا مأوى يتلقى الطعام من سيارة طبية كما لو كان يتناول الطعام في مطعم راقي. كل هذه المشاهد وسليمان في باريس، يجد فيها مدينة الغربة والاغتراب حيث يقضي الأوروبيون أيامهم غافلين عن مشاكل العالم الأوسع.

أثناء رحلة هجرته إلى أوربا، في نيويورك يبدو سليمان مطارداً ومستهدفاً أينما ذهب، وبالذات في مشهد التفتيش في المطار حيث اختير منفرداً لإجراء عملية التفتيش. وفي مشهد آخر بينما يتجول في الخلاء، يرى من بعيد فتاة ذات أجنحة بيضاء مثل الملاك تلبس في صدرها علم فلسطين، ثم يهاجمها البوليس فجأة ويرميها أرضا، وبعد أن يقبض عليها بغطاء من القماش، سرعان ما يكتشف البوليس أن الفتاة قد ذابت واختفت ولم يبق منها سوى أجنحتها البيضاء.  في مثل هذه اللقطات يرمز سليمان إلى فلسطين الصامدة والباحثة عن الحرية والسلام مازالت تعاني من العنصرية والقمع والقهر. وفي مواقف عديدة من مشاهد أخرى يؤكد فيها المخرج شوقه للحرية، وحبه للحياة، وإنسانيته، وتعامله مع البيئة في حياته اليومية، فهو يروي النبات في منزله بانتظام، ويطعم العصفور وسط انشغاله على «اللاب توب» ثم يمنحه الحرية حين أطلق سراحه من الشباك.

ولأن المخرج السينمائي إيليا سليمان لديه الكثير في ذهنه، فكان ينتظر اللحظة المناسبة للتحدي وتحقيق ما يصبو إليه في تمويل الفيلم، فتوجه إلى مكاتب منتج فرنسي (فانسنت مارافال، وايلد بانش) والذي أخذله وقال له: «لا نريد أن نفعل شيئًا تعليميًا للغاية.»، «هذا النوع من الأفلام لن يكون تجاريًا جدًا.» ولما لم تنجح محاولته في باريس، توجه إلى نيويورك حيث قابله طريقٌ مشابه، متعرج ومليء بعراقيل غريبة الأطوار. فذهب إلى مكتب منتج آخر-غايل غارسيا برنال- والذي يشرح لزميله نوايا سليمان في صنع كوميديا حول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فكان الرد تهكميا قائلا: «يبدو بالفعل مضحكاً.»

ينتهي الفيلم في المشهد الأخير في ملهى في الناصرة، حيث يشاهد سليمان – بصمتٍ عميق – شباب الجيل الصاعد وهم يحتفلون ويرقصون على الأغاني الفلسطينية بلا هوادة، مما يجعل المشاهد يخمن ما يفكر به المخرج في مستقبل بلده، وما يختلج في صدره من مشاعر التفاؤل والأمل والاستمتاع بالحياة رغم قساوة ظروف الاحتلال.

 وكما قال عنه النقاد: في خضم بحثه عن الهوية الفلسطينية، ينغمس إيليا سليمان في عالم متضارب، متأثراً باللغة السينمائية لأعمال جاك تاتي و باستر كيتون. ويجدر الإشارة إلى دور المصور السينمائي القدير سفيان الفاني الذي ركّز في الفيلم على تصوير المناظر الطبيعية العريضة والتفاصيل الدقيقة مع ملاحظة وضع الممثل المخرج إيليا سليمان في وسط الشاشة، وكذلك كل من شارك في إنتاج الفيلم بما فيه استخدام الموسيقى التصويرية للعديد من الأغاني المختارة بحذاقة سواء العربية التقليدية أم الغربية السريعة، خصوصاً وأنها حلّت محل الحوار المفقود بجدارة.

في فيلمه، «لا بد أن تكون الجنة»، استطاع المخرج السينمائي والممثل إيليا سليمان من الناصرة إلى باريس إلى نيويورك أن يحمل شعلة الكوميديا الصامتة الساخرة إلى القرن الحادي والعشرين، والتي تعكس مشاعره الفياضة والغنية بالبحث عن الذات والهوية الفلسطينية، بلغة سينمائية معاصرة، تحمل طاقة إيجابية طريفة ساحرة.

هكذا هم أبناء فلسطين اليوم…يصنعون التاريخ فكراً وإبداعاً…لتظل فلسطين النجمة المتألقة في أعماق الوعي العالمي، من أجل تحقيق الذات وتحويل الألم إلى الأمل.